750000 نسخة.. من كتاب؟

قرأت خبرا قصيرا أثار دهشتي واشمئزازي في نفس الوقت.. سمعت أن كتابا صدر في الولايات المتحدة الأمريكية، بيع منه خمسون وسبعمائة ألف نسخة.. 750000 نسخة.. مليون إلاّ ربع نسخة في يومه الأوّل.. نعم! في أوّل يوم من نزوله المكتبات..
ألم تُصَدِّعُوا رُؤُوسنا أنّ الكتاب الورقي ولّى زمانه.. وأنّ الأمريكان لا يقرؤون.. وأنّهم شعب لا يعرف أين تقع أوروبّا وأفريقيا.. وأن التّكنولوجيا الحديثة هي التّكنولوجيا الرّقمية.. وأنّ آبل وأخواتها هي الحداثة والورق للتّاريخ والمتاحف..
لو أنّ هذا الكتاب صدر في أوطاننا المسلمة مجتمعة.. وهو كتاب سياسة وفكر.. لما بيع منه عُشرُ هذا العدد ولو بقي على الرّفوف مدّة مجموع سنين حكم رؤسائنا وملوكنا كلّهم أجمعين..
نحن الأمّة التي لا تقرأ.. نحن الأمّة الجاهلة التي ترمي بجهلها إلى الآخرين.. وإذا قرأنا فنحن بين تفسير الأحلام والطّبخ.. النّوم والأكل..
غفر الله لنا لما فرطنا في أول الوحي وآخره..

خطة الأربعاء إلى الخميس..

سمعت نكتة قديما.. أن معلّما للصّبيان أملى عليهم نصّا فيه كلمة "الأربعاء".. فسأله تلميذ مُتَفَاهم: "همزة كلمة الأربعاء، على السّطر أم على الياء؟؟" فأجابه المعلّم الحذق الماهر المُلمّ بالكتابة: "دعك من الأربعاء، واجعله الخميس!"
وتأمّلت في حالنا هذه الأيام، فوجدت حالنا كحال هذا المعلّم، نهرب من مشاكلنا والمصاعب التي تعترضنا بتحويل مجرى الأمور ونقل المعارك والأحداث إلى مناطق نعتبرها آمنة وهي في الحقيقة خطر علينا من حيث لا ندري..
فمشاكلنا مع الأهل نحلّها بقطع العلاقة وإخراجهم من حياتنا.. ومشاكلنا مع العمل نحلّها بغيابنا وربما اسقالتنا.. ومشاكلنا مع الجيران نحلّها بالرّحيل.. ومشاكلنا مع الأزواج نحلّها بالطّلاق..
وأدهى من ذلك وأمرّ.. أساتذة الجامعات يختصرون ويغيّرون برامج التّدريس من مواضيع لا يفقهونها إلى بضعة أسطر يحفظونها مع أن المفروض أن يُطوِّرُوا أنفسهم لفهم البرامج لا تغيير البرنامج وحذف ما لم يفهموا..
إنّها حياتنا، فرار دائم من الأربعاء إلى الخميس.. وعقدة دائمة من الهمزة ووضعها..

هل يجوز للكافر أن يدخل المسجد؟

أثارت أحداث استقبال وهران للأساقفة وتجديد كنيستهم بحر الأسابيع الماضية موجة من التّعليقات والأحاديث والنّقاشات.. بين فتاوى مبتورة من هنا وهناك.. وأقوال للعلماء وللعامّة وسباب وشتم.. وتصدّرت خطب الجمعة سردا لأقوال العلماء وفتاويهم عن تجديد الكنائس في ديار المسلمين وحكم دخول الكافر إلى المسجد وحكم دخول المسلم للكنيسة..
ولست هنا بصدد الإفتاء والتّنظير الفقهي.. فلست فقيها ولا مفتيا.. ولست هنا بصدد التجريح أو التّعرض للفقهاء وعلماء الأمّة فهم حماة الشّرع ومعالمنا إلى معرفة الحلال من الحرام.. إنّما أخوض في هذا الباب من باب شموليّ في محاولة لقراءة واقع الأمة وحالها البائس.. فإني أكاد أجزم أننا لو استفتينا الأئمة الأربعة مالك وأبا حنيفة والشافعي وأحمد عن هذه المسائل وعَلَّمناهُم بحالنا لكان جوابهم أن لعنة الله قد حقت علينا لِما ضيعنا من دين الله!
لقد أجاز الرّسول صلّى الله عليه وسلّم دخول الكفّار إلى مسجده.. ودخل هو دور اليهود والمشركين.. ودخل الصّحابة بعده وعلماء الأمّة من السّلف بِيعَ الكفّار ومعابدهم ولم يتطاول عليهم الغوغاء ولم ينكر عليهم أحد.. ليس لضحالة علمهم أو غزارته.. ولكن لتباين مقصودهم عن مقصودنا.. وفهمهم الصّحيح لرسالة الإسلام وقصورنا عن فهم حتى قول لا إله إلا الله!
لقد كان الدّافع للأوائل إيمانٌ راسخ بالله ودينه، وعزيمة على إعلاء كلمة الله ولو ببذل النّفس، وثقة في أن هذا هو الحقّ وأنّ الله ناصر عبده.. فلم يخشوا أبدا من دعوة الكفار لهم للنّقاش أو الجدال، ولم يستحوا يوما من أن يبدؤوا كلامهم بأن يقولوا "أسلموا تسلموا.." فكانت عندهم مسائل دخول الكفّار لمسجادهم ودخولهم لمعابد الكفّار وبناء الكنائس في أرضهم مسائل محسومة بالواقع لا بالافتراض.. لأنّ تمكن الإسلام من قلوب أولئك النّصارى واليهود كان مسألة وقت.. ومن عاند الحقّ منهم فإنّهم قلة مصيرهم إلى الزّمن إمّا يجاهروا بالحرب فيهلكون أنفسهم وإمّا ينصاعوا لحكم المسلمين فيأمنوا..
أما اليوم، فنحن قوم نستحيي بديننا وكأنّه عورة نخشى انكشافها.. ونرى في الكفر رِفعة وعلوا تجعلنا نخشى من رؤية الكافر في أرضنا خشية أن يفتننا عن ديننا.. ونرى في كل كنيسة منارة لتكفير أبناءنا وبناتنا..
ذلك أنّنا أضعنا تربية أبناءنا وشبابنا على الإسلام، ورضينا بالقسمة الحالية بيننا وبينهم.. لهم دينهم ولنا ديننا.. لا نرضى لهم منّا بأحد.. ولا ضير إن لم يأت منهم أحد!.. تخلّينا عن رساليّتنا في نشر الإسلام.. وعن الدّعوة لدين الحقّ.. ولو عندنا لهذا الرساليّة وهذه الدعوة لخشي الأساقفة أن يدخلوا ديارنا مخافة الإسلام وتركوا هم بناء الكنائس في أرضنا مخافة تحويلها إلى مساجد بسلطان الدعوة والعقل لا بسلطان القوة والقهر..

في اليوم العالمي للغة العربية

تحتفل المنظّمة الدّولية باليوم العالمي للّغة العربية، ومن العجب العجاب أنّنا ونحن النّاطقون بلسان الضّاد لا نعير لهذه المناسبة وزنا!.. فكم صدّع رؤوسنا بعض القوم بالأمازيغيّة في كلّ مناسبة وبغير مناسبة، وبالحرف الأمازيغيّ والتّراث الأدبيّ الأمازيغيّ واللّسان الأمازيغي.. وهم هم الذين يحتفلون بأعيادنا التّراثية والتّاريخية بلغة موليير.. هم هم الّذين يشمئزون من حروف العربيّة ولسانها..
وممّا زاد في عجبي تصدُّر السّفارة الفرنسيّة للاحتفال باللّغة العربية في يومها؟!.. وهم الّذين حاربوها فوق القرن بعساكرهم ويحاربونها قرابة القرن بأتباعهم وأذنابهم..

عندما تتسخ العقول

تتكرّر أمامي هذه الأيّام سلوكات أعلم أنّها منتشرة.. ورأيتها من قبل.. وتحدّثنا عنها كثيرا.. لكنّي أحببت أن أجدّد الحديث عنها لأنّي لا أرى سواها.. ومن كلّ الأعمار.. شيبا وشبابا..
لقد رأيت أناسا يرمون القمامات من سياراتهم.. البارحة رأيت أمامي يدا -أحسبها لإنسان!- تخرج من نافذة السّيارة وتقذف بقارورة بلاستيكيّة على قارعة الطّريق، لتنتهي القارورة في حقل للأشجار.. ورأيت قبل يومين رجلا مسنّا أبيض الشّعر وهو ينظّف شاحنته ويرمي المناديل وأعقاب السجائر وفتات المكسّرات وكأنها مخلّفات قرود ويرمي كلّ هذا من نافذة شاحنته إلى وسط الطريق لا قارعته.. واليوم رأيت من يرمي من نافذة سيّارته كيس قمامة بأكمله!.. كيس أزرق ملفوف ومقفل يظهر من خلاله قشور البرتقال وعلب السّجائر.. لقد تكبّد الكائن السّائق عناء جمع القمامة ووضعها في كيس وإقفال الكيس.. ثم رمى بها من نافذة سيارته وهو يسير بـ80 كلم/الساعة لينفتق الكيس على الطّريق وتتبعثر القمامة التي جمعها..
النّاس مجانين وعقلاء.. فالمجنون لا حساب ولا عتاب عليه، والعاقل محكوم بعقله في أفعاله وتصرفاته.. أمّا هؤلاء القوم فلا أجد لهم تصنيفا لا في هؤلاء ولا في هؤلاء.. فلا هم مجانين لهم عذرهم.. ولا هم عقلاء يفكّرون وينطقون.. إنّ لهم عقولا متّسخة قذرة نتنة.. تجعل أفعالهم نجسة ولو غسلتهم بأمطار الأرض كلّها ما نظفوا ولا زالت ريحهم..

الدخول العثماني إلى الجزائر ودور الإخوة بربروس 1512-1543

في هذا الكتاب لصاحبه محمد دراج، نجد مادة دسمة لفترة مهمة من تاريخ الجزائر الحديث. هي فترة فاصلة بين الدولة بمفهومها القديم وبين بواكير الدولة الحديثة القائمة على الولاء للشخصية المعنوية الجامعة للقيم والتاريخ والمصير.
في هذه الحقبة المفصلية أيضا، تحولات مجتمعية هامة، تكرس مرحلة الخروج من الحضارة لعالمنا الإسلامي، ودخولنا مرحلة الركود والجمود. ففي الوقت الذي يتقدم فيه الغرب المسيحي بنهم إلى بناء الدولة والولاء والعمل على تحصيل الرتب العليا في الصناعة والعلوم، تتقوقع القبائل والمدن عندنا على المصالح الذاتية الآنية في جو مهيب من الحسد لتحطيم الأخ من أجل الظهور ولو تحت أقدام الأعداء.
من هنا كانت معجزة الدخول العثماني إلى الجزائر وبداية تكوين نواة هذا الكيان برغم قبلية وذاتية مقيتة ومتجذرة.
في هذا الكتاب نجد بعض القراءات بين السطور للعوامل التي جعلت الجزائر قوة إقليمية لقرون في ظل الدولة العثمانية، وللعوامل التي جعلت منها لقمة سائغة للاستدمار الفرنسي فيما بعد.
فقوة الدولة العثمانية وتصدي الإخوة بربروس للغرب المسيحي جعل الجزائريين يلتفون حولهم وينبذوا أصحاب النفوذ والمصالح من بينهم، لتتحول الجزائر إلى دار الجهاد في غرب المتوسط.. وما إن تلاشى هذا الهدف بضعف الدولة العثمانية ودخولها إلى مصاف الدول البروتوكولية القمعية فيما بعد، حتى تحول ولاء الجزائريين إلى القبيلة والشيخ كما كان عليه.. لينتهي الأمر بالمستدمر بينهم يأكل القبيلة بعد الأخرى والشيخ بعد الآخر.

لكي سيدي؟!

عندما كنت صغيرا، كنت أكره برامج المرأة وأراها مضيعة للوقت، وكم تمنّيت لو برمجوا عوضا عنها رسوما متحرّكة أو حتّى أفلاما.. وعندما كبرت، تَقَبَّلت الواقع، وأن للنّساء نصيب من الإعلام لشؤون جمالهم وحلاقتهم وموضتهم..
لكنّ الظّاهر أنّ تنازلي أغرى الإعلام وجعله يغيظني ويستفزّني بما هو أنكى!.. لقد وَقعَت عيني -وليتها ما وقعت- وأنا أقوم بجولتي المسائية على قنواتنا الوطنية على حصّة لم أشهد لها مثيلا قبل اليوم! ولو أنّ أحدهم حدّثني بها لاتّهمته في مروءته ودينه وعرضه! لقد كانت الحصّة حواريّة  استضاف فيها المقدّم ضيفين، أحدهما ملِك جمال! أي والله.. ليس ملِكة جمال بل ملك جمال!.. وراح يحدّثنا عن الجمال وكيف أنّه يمضي وقته في الاعتناء بنعومة بشرته وصفاء وجهه وذلك بالأقنعة والمراهم..!؟ والآخر حلّاق، لكنّه ليس حلّاقا عاديا، بل حلّاق وخبير تجميل للرّجال، يحضّرهم ليكونوا ناعمي الملمس عندما يتقدّمون لخطبة نسائهم من أهليهم -والعهدة على الحلاق فيما قال-!؟!؟
وممّا زاد في إعجابي بهذه الوصلة الهزلية في مجتمعنا الضّائع التّائه، سؤال المقدم لملِك الجمال عن مشاريعه المستقبليّة.. وكأنّه حاز شهادة جامعيّة أو مؤهّلا مهنيّا أوإجازة علميّة.. ولماذا بربّك يصلح ملِك الجمال؟ إلاّ إفساد البلاد والعباد، وإعلاء مشاريع العهر والرّذيلة وتشريع التّخنث والميوعة عند الشباب..
لك الله يا أمة حفرت قبرها وراحت ترقص فيه ورصاص عدوّها يخترقها من كل صوب..

من نواميس النفس البشرية.. لا تقترب من الفشل فتفشل

بعد أن ندرك أن للنّفس اندفاع قويّ إما للخير وإما للشّر، وجب علينا أن نوجّهها لما نراه نجاحا وخيرا.. والأمر هنا يختلف من شخص لآخر بحسب طبيعته وظروفه وخلفياته ومحيطه.. وكلّ ذلك منوط بالفرد نفسه، عليه أن يجتهد ليعرف مواطن ضعفه وقوته ومداخل نفسه وشهوته.. ولا يتأتّى ذلك إلا بالتّأمل في الأفعال ومراقبة النّفس وتحليل التّجارب والمواقف..
فمن لمس من نفسه عادة سيّئة مثلا، وأراد الإقلاع عنها، فلينظر في نفسه ولينظر حوله كلّما أقدم عليها أو اشتاقت نفسه إليها، ليحدّد المحفّزات التي تدفعه إليها والطّريق الذي يوصله إليها، لأنّه لا سبيل للإقلاع عنها إلّا بتغير الطّريق المؤدّي إليها.. فإن كانت الوحدة مقدّمة لهذه العادة ليلزم الصّحبة والأهل، وإن كان القلق يؤدّي به دائما لهد العادة فليعمل على احتواء هذا القلق والابتعاد عن أسبابه، وإن كان هناك صاحب أو صديق هو من يدفعه لهذه العادة كلما التقى به فليواجه ضعفه ويحاول إصلاح هذا الصّاحب أو ليقطع علاقته به! وإن كان الفراغ ملازما لهذه العادة فليملأ وقته قبل أن يفرغ بالتخطيط واستباق الفراغ قبل أن يحصل، وإن كان محيطه مستفزا ويدفعه للسيئ فليهاجر أو ليرحل!..
وليعلم أن العادة سيئة كانت أم حسنة هي نتاج تكرار وتكرّر أسباب، فمن أراد العادة الحسنة فليهيء لها أسبابها، ومن أراد قطع العادة السيئة فليقطع عنها أسبابها.

من نواميس النفس.. الاقتراب من النار مدعاة للاحتراق

لقد حرم الله تعالى الاقتراب من الزّنا، كما حرّم الاقتراب من الفواحش كلّها، وأخبرنا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أنّ الخوض في الحِمى نتيجة لمن حام حوله.. ذلك أن النّفس البشريّة طمّاعة بطبعها توّاقة للأكثر ومجبولة على الفضول.. ومتى مَشينَا عشر خطوات في اتجاه معين، تمنّينا الخطوة الحادية عشر، ومتى شربنا شربة من العسل تمنّينا الشّربة الثّانية..
لذلك فإن السّبب الرئيس للفشل هو السير في طريقه!.. قد تبدو هذه المقدّمة سخيفة، لكنّنا نسير عليها في غالب أفعالنا.. فنحن نعلم أن الرّسوب فشل، لكنّنا نسهر على الأفلام والمسلسلات، ونستمع للموسيقى والأستاذ يحاضر، ونمتنع عن تدوين الدّرس والملاحظات، ونُبرمج الخرجات والسّهرات أيّاما قبل الامتحانات.. ونقول بعد كل هذا.. نريد أن ننجح؟!
وبمفهوم المخالفة، السّبب الرئيس للنّجاح هو السير على طريق النّجاح.. لكنّنا في حياتنا لا نأبه بهذا.. يستثقل التّاجر القيام باكرا، ويتأفّف على الزّبائن، ويرمي السّلعة ولا يُنقِص من ثمنتها، ثمّ يقول: أريد أن أنجح؟!
إن هذه الأمثلة وإن كانت حسّية، لكنّها تنسحب على كل السّلوكات والطّبائع النّفسية، فلكل آفة نفسيّة مقدّمات ومحفّزات، ولكلّ فضيلة نفسيّة مقدّمات ومحفّزات كذلك.. ولا يتحقق النّجاح في تحصيل فضيلة أو دفع رذيلة إلا بالاقتراب رويدا رويدا من الأولى والفرار من الثّانية.

نواميس النفس البشرية.. خفاء الارتباط

من أسباب إعراضنا عن نواميس النّفس خفاء ارتباطها، وخفاء مظاهرها ونتائجها.. ولنضرب على ذلك مثالا: عندما يرمي أحدهم نفسه من مكان شاهق، فتنكسر رقبته ويموت! يدرك الجميع أنّه خرق قانونا من قوانين الكون، ويدرك أنّ هذا الموت هو نتيجة حتميّة للتّردي من الأعلى، ويستوي في ذلك عالم الفيزياء والأمّيّ الذي لا يقرأ ولا يكتب.. ولكنّ القلّة القليلة من النّاس من يمكنه الخوض في الأسباب التي دفعت هذا الشخص لأن يرمي بنفسه، وما الذي جعل إنسانا عاقلا يصل لهذا الفعل الشّنيع,,
ولإن كان علم النّفس قد خاض في هذه الأمور، ودقّق في أسرار النّفس البشرية، إلاّ أنّ تصدّي الملاحدة وأعداء الدّين لها العلم النّفيس جعل ملاحظاتهم ونتائجهم تدور حول تدوين الظّواهر وتقنين السّلوكات البشرية دون التّفريق بين السّوي منها وغيره، حتى وصل بهم المطاف إلى تدوين المثلية والشّذوذ الجنسيّ على أنّه سلوك طبيعيّ؟!
ولسنا هنا بصدد الخوض في علم النّفس أو المزايدة عليه، إنّما نريد أن نستشفّ منه بعض الملاحظات التّي تفيدنا في تقويم سلوكنا والسير في طريق النّجاح وتقويم إخفاقاتنا واعوجاجاتنا.

العيش المشترك.. (2)

لقد أظهر العيد على بركته وقدسيته مساوئ مجتمعنا وعيوبه من حيث العيش المشترك واحترام الآخر. لقد أضحينا في زمن لا يهتم الواحد منّا إلا بنظافة منزله من الداخل، أما خارج بيته، فلا يأبه إن جرّ الأدران والأوساخ إلى جيرانه وكلّ من يعيش معه في الحي..
عندما نتصرّف كأفراد لا يربطنا إلا رمز الوطن وشعار الدولة وحبر القانون: نذبح أضاحينا ونريق الدّماء على البلاط حتى يتعفن أمام منازلنا.. نرمي بجلد خروفنا عند باب جارنا في العراء دون كيس أو مُطهّر أو ملح.. ندفع الأوساخ وبعر الخروف بالماء والمكنسة ليجري عند باب جارنا لنتّهم الجار بعد ذلك في نظافته وطهارته.. نُخرج قماماتنا وفضلاتنا في أشباه أكياس ممزّقة فتنهشها الكلاب والقطط وتجري بها في الشّوارع تنقلها من زقاق إلا زقاق.. وعندما نريد أن نُخلّص أنفسنا من كلّ هذا، نحمل كلّ فضلاتنا في السيّارة ونرمي بها في أقرب نقطة فوضوية أمام عمارة سكنيّة أو في حيّ آخر لنبتليه بِبَلاوِينا!!!
هذا هو العيش المشترك لأمّة التّوحيد والإيمان والعبادة؟!

العيش المشترك.. (1)

تُظهر بعض المناسبات مدى مقدرة الأفراد على العيش المشترك.. هذا العيش المشترك الذي يعتبر من معايير تطوّر المجتمع حضارته.. فتقدّم المجتمع وتصنيفه كمتحضّر ومتخلّف لا علافة له بمدى انتشار التّكنولوجيا والأموال والسّيارات الحديثة.. بل بمقدرة أفراده على إعطاء صورة جماعية سليمة لمجموعتهم البشرية..
ولا يتأتّى ذلك إلا بمجموعة قيم تنظّم العلاقة بين الأفراد من جهة وعلاقة الأفراد مع المحيط.. من هذه القيم احترام المحيط بالحفاظ على المساحات الخضراء والاعتناء بها ولم لا إنشاؤها وتهيئتها، وعدم رمي النّفايات المنزلية بها ووضع القمامات في الأماكن المخصّصة لذلك.. ومن هذه القيم كذلك، احترام الجار بعدم التعدي على حيزه الخاص، وعدم رفع الصوت والامتناع عن الضوضاء باكرا أو في المساء.. ومن هذه القيم الاهتمام بالحياة العامة من تنظيم للنّشاطات وتسيير للموارد المشتركة من مياه وكهرباء..
هذه القيم التي تبنى عليها الحضارة الحديثة اعتنى بها آباؤنا عندما أنشؤوا الحواضر من بغداد إلى قرطبة مرورا بالقاهرة والقيروان وبجاية وتلمسان وتيهرت.. لكنّنا اليوم أبعد عن هذه الحضارة وكأننا قوم بدائيون هم أقرب للبهائم منهم إلى البشر..

النواميس.. مبدأ من مبادئ هذا الكون

الله خالق كلّ شيء، وهو القادر على إنفاذ أمره بسبب وبغير سبب.. لكنّه سبحانه وتعالى، لحكمة يعلمها، ابتلانا بالأسباب، وشرع لنا في ديننا البحث عن الأسباب واتّخاذها في معيشتنا.. وتخضع هذه الأسباب لنواميس الكون التي أودعها الله وطلب منا اكتشافها وتقصّيها ووضع العلوم التي تُعنى بها.. من هذه النّواميس ما تعلّق بالطّبيعة، كقوانين الفيزياء والرّياضيات والأحياء وكل العلوم التّجريبية الحديثة.. ومنها ما تعلّق بالمجتمعات الإنسانيّة وغير الإنسانيّة ممّا ينتظم به سير الجماعات والمجموعات والأسراب.. ومنها ما تعلّق بالنّفس البشرية، وهو موضوع مقالنا هذا..
فكما تستيقن أنفسنا أن الخوض في النّار مهلكة للبدن، وأن التّعرض للبرد بعد حمّام ساخن يورث المرض، ينبغي لنا أن نستيقن من السنن التي أودعها الله في أنفسنا وفطر عليها غريزتنا.. وإن كان الإنسان قد خطا خطوات كبرى في هذا المجال نظريا وعلميا، إلا أنّ التزامنا بهذه السّنن يبقى مفقودا في حياتنا، فعلى الرّغم من معرفتنا بأنّ الله هو خالق قوانين الطّبيعة وقوانين النّفس، إلاّ أنّنا نحترم قوانين الطّبيعة احتراما حادّا ونحن نعلم أن الله قادر على خرقها، وندوس على قوانين النّفس متجاهلين أوامر الله باحترام كلّ قوانين الكون وكأنّ لهذه القوانين خالق آخر غير الله تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..

مدونة أعلام ومعالم جزائرية

في خضم الزخم الرهيب من المعلومة بأشكالها المتعددة من كلمة وصوت وصورة، ووسائطها العديدة من قنوات وشبكات وهواتف، يتيه الشخص وتتجاذبه الأفكار والتيارات، وخصوصا الشباب.
فلدقائق معدودة أمام الشاشة تلفازا كان أم كمبيوترا، يجد العقل نفسه أمام أفكار تدعو للحداثة وأخرى للأصالة، وترويجا للشهوة وآخر للروح، ودعوة للتعريب وأخرى للتغريب، والشاب اليافع المقبل على الحياة المتطلع لانتماء ما يجد نفسه أمام خيارات لا يملك معها أدوات الحكم والترجيح، يسلك مسلك الاندفاع بلا بصيرة ليجد نفسه -لا قدَّر الله- مدافعا عن أفكار لا ينتمي إليها، ومنشغلا ببِناءِ بناءٍ ليس له فيه حظ ولانصيب منبهرا بزخرف الدعوة وبريقها وهي في الحقيقة زيف وبطلان.
من هنا كان توضيح الصورة لأبناءنا وإخواننا فرضا وواجبا يمليه حب الخير والدعوة إلى الحق وكشف الزيف والبهتان والباطل. ولكن، ما هي هذه الصورة التي ينبغي توضيحها؟
الصورة المقصودة هي المحيط الأدبي والبيئة التاريخية التي ينبغي أن يصوغ منها الفرد توجهاته وأفكاره ورسالته في هذه الحياة. وأقول ينبغي لأن المولود في هذه الأرض، والمنتفع من خيراتها ليس طفرة زمنية أو بدعة كونية نشازا في المد الزمني، بل هو امتداد لأزمنة متتابعة وجماعات متلاحقة عمرت هذه الأرض، ولن يكون إلا امتدادا لها، فوجب عليه معرفة بيئته ليحدد مصيره. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا أراد تغيير واقع وجذور هذه البيئة، عليه أن يفهمها ويحدد مواقع الخلل فيها، ومن ثم يقنع نفسه أولا، ثم غيره بعد ذلك بضرورة التغيير وصلاحه.
وعلى كل الأحوال، لا مفر له من معرفة جذوره، والتعرف على ذاته، وهو ما لا يتأتى إلا بالتوجه نحو قراءة المعالم المكانية والأعلام التاريخية التي صاغت وتصوغ بيئتنا ومحيطنا.

أحاديث عن الإسراف

نهانا الشّرع عن الإسراف في الماء ولو كنّا على نهر جار! ولقد أجاد إمام الجامع هذه الجمعة في كلامه عن الإسراف.. فنبّه النّاس إلى أنواع من الإسراف خفيّة نحسبها هيّنة وهي عند اللّه عظيمة.. ومنه كانت فكرة هذه المداخلات عن الإسراف..
الإسراف هو كلّ إنفاق أو استعمال أو استغلال لعين أو منفعة أومَورِد فوق الحاجة وزيادة عن المطلوب..
والقصد والرّشد في استغلال الموارد المعنوية منها أو المادية أساس الرّخاء والعيش الهنيء.. فاللّه خلقنا وخلق كلّ شيء بقدر.. أرضنا وماؤنا وهواؤنا وأكلنا وحتّى عواطفنا.. وليس الخلل الذي نراه والنّقص الذي نخشاه ونخافه إلاّ نتيجة سوء استغلالنا لهذا كلّه وجشعنا وطمعنا وإسرافنا.. فنأخذ حقّنا وحقّ الغير.. ونترك الآخرين في حاجة وفاقة ونقص..
والحقيقة أنّ تقسيم الموارد ليس بالأمر السّهل.. فالتّركة عظيمة والأجيال متوالية والعدد كبير.. وليس هناك قيّم أو محاسب على ذلك كلّه.. ومردّ كلّ ذلك إلى التّربية الصّحيحة السّليمة التي تتأتّى بها القسمة العادلة التي تحقق خلافة الإنسان على هذه الأرض.

العطلة

عندما يُذكّرنا أحدهم بالطّاعة والذّكر والصّلاة، والأوراد منها، نتحجَّجُ دوما بالعمل، والسّعي على العيال، وطلب الرّزق، ونتذكّر دوما أن العمل عبادة..
وما إن تحلّ العطلة حتى ننسى التّعب ونُجهد أنفسنا في تجهيز الحقائب وحمل الشّمسيات والكراسي والطّاولات والسّفر لأيّام.. ونضع المخطّطات للرّاحة والاستحمام والاستجمام.. حتّى إذا انتهت العطلة وجاء العمل من جديد وجدنا أنفسنا متعبين من جديد..
والسّؤال هنا.. ما هو حظ العبادة والطّاعة من وقت فراغنا من العمل؟ أليس حَرِيّا بنا أن نعوّض بعضاً من شغلنا من أجل الدّنيا أيّام عملنا وتعبنا بأن نجعل في أيّام العطلة أورادا من الذّكر أو الصّلاة أو قراءة القرآن.. أن نشغل بعض أيّامنا بأعمال صالحات وصدقات جاريات.. أن نمضي بعض أيّامنا في خلوات مع اللّه..
العطلة فرصة لإراحة الجسد.. لكن الرّوح لها حقها من الراحة أيضا..

آن الأوان أن نفترقا..

حدّثني أحدهم أن آخر أيّام رمضان يُحزنه.. وكأنّ مغفرة الله توشك على الانقضاء.. والحقيقة أن آخر يوم في رمضان يحزننا جميعا.. فالخير كلّ الخير في رمضان.. رحمة ومغفرة وعتق من النّار..
لكنّ عزائنا أن نُحسِن الظن بالله، فهو ربّنا وربّ رمضان وربّ الشّهور كلّها.. جعل لنا مواسم تتبدّل علينا.. فبعد رمضان.. ستحلّ الأشهر الحُرم.. وعشر ذي الحجّة.. ثم شهر الله المحرّم.. ولنا الإثنين والخميس من كلّ أسبوع.. ولنا الجُمُعات..
وعزائنا أن نحسن الظنّ بالله فنطمع أن يتقبّل منّا رمضان صيامه وقيامه.. وأن يرحمنا بمغفرته وعتق رقابنا من النّار قبل انقضاء آخر يوم منه..
من وَجَد في وِجدَانه وَجدٌ من رمضان.. فهو من تقوى القلوب.. وهو بشارة في الدّنيا على بشارة الآخرة..
جعلنا الله من المقبولين..

عيد وعطلة

كثيرا ما يصادف العيد عطلة نهاية الأسبوع.. وربّما يكون الحال هذا العام.. الفلكيون وأصحاب الحسابات يقولون أنّ العيد يصادف يوم الجمعة.. والوزارة تؤكّد أن لجنة الأهلّة وحدها من يحدد يوم العيد بالرؤية ثبوتا وعدما..
والموظف لا يهمّه ذلك كثيرا، إنّما يهمّه أن يكون العيد يوم السّبت لكي يرتاح يوما آخر من عناء الوظيفة..
سيحتدم النّقاش مرّة أخرى هل نصلّي الجمعة يوم العيد أم لا.. وسيتبارى أناس للعمل بالرّخصة اتباعا للسنة؟!.. وستفرغ جوامعنا هذا العيد أيضا إذا صادف يوم الجمعة.. نحن متديّنون مع وقف التنفيذ، مع ضمان الحدّ الأدنى من الخدمات..
أهل غزّة لا يأبهون بيوم العيد أجمعة كانت أم سبتا.. فجمعة المسلمين لم تغن عنهم شيئا.. فجُمَعُنَا للملابس والعطور لا للجماعة ونصرة الأمّة.. وسبت اليهود صار كلّ أيام الأسبوع عندهم..
كل أيام الأسبوع تلعن تقاعسنا، وتنأى بنفسها أن تكون عيدا لنا..

ترقب العيد

ننتظر رمضان ونُجهِّز بيوتنا لاستقباله.. نشتري الأواني الجديدة.. ندهن جدران البيوت.. تقوم النّسوة بتَعزِييفِ المطابخ والغرف.. وعندما يأتي رمضان نكون قد أُنهِكنا وخارت قُوانا.. ونُمضي نهاره نائمين أو جريا في الأسواق..
حتّى إذا مضى نصف رمضان أو جلّه، أدركنا أننا فرطنا فيه.. ثم نسيناه!... واستعدنا نشاطنا، وبدأنا في التّجهيز للعيد.. نُغَيِّر زينة البيت لاستقبال الضّيوف.. نُحضِّر الحلوى.. ونجري في الأسواق لشراء الملابس والحليّ..
حتّى إذا جاء العيد أسقَطَنَا التّعب ونال منّا الوهن.. ومضى العيد سريعا..
هي هكذا حياتنا.. تحسر على الماضي.. وتحضير للوَافد الآتي.. حتّى إذا جاء لم نَعِشهُ لأنّنا منهكون ومتعبون.. نعيش ماضينا ومستقبلنا.. لكنّ الحاضر عندنا معدوم مفقود..
ونتسائل لماذا فُقِدت اللّذة من كلّ شيء..

ليلة القدر

ليلة القدر خير من الف شهر.. إنّها ليلة القدر، ليلة الإجابة والأجر الوفير المضاعف.. ولكنها خافية علينا حتى لا نكون على ما نحن عليه الآن.. في ألف ليلة وليلة..
الدّين حياة ومنهاج، عطاء وبذل متواصل، وعمل متراكم.. أمّا نحن.. فالدّين عندنا فُرصٌ ومواسم.. نَخبِزُ طول العام بين رقص وشطح وفساد.. ثم ننتظر ليلة القدر لكي نمحو الذنوب..
ليلة القدر ليست عصا سحرية لذوي الأسقام والأدران.. بل هي نتيجة أعمال ونيّات وعبادات.. فالسّيدة عائشة رضي الله عنها كانت جوادة كريمة قوّامة صوّامة.. وسألت النبي عمّا تقول في ليلة القدر.. فهي الجائزة.. أما العاصي وقاطع الرحم.. فما عساه أن يكون حظّه من ليلة القدر..
إنّ حالنا مع هذه المواسم كمن لبس الجديد وتعطّر وتبرّج لحضور حفلة التّخرج آخر السّنة وهو لم يحضر امتحانا واحدا طول العام..
كل عام ونحن بانتظار ليلة القدر..

المطبخ تحت الحصار

مع اقتراب العيدـ أَهَلَّهُ الله علينا جميعا بالعافية، أُغلقت منافذ المطبخ واستُنفِرَت جميع نسوة الدّار لإعداد الحلوى.. فالطّحين يحاصر المكان، وحرارة الفُرن وزيت المقلاة تحاصر الداخل وتمنعه من الاقتراب للضّرورة الحلوانيّة..
نعم.. هناك فرق بين حلويّات اليوم وحلويّات البارحة، لكن الجوّ هُوَ هُوَ.. تعب نهارا، وشكوى ليلا، ووعود بعدم تكرار ذلك، وتعهّدات بصناعة نوع أو نوعين فقط العام المقبل، أو شراء الحلوى بدل صنعها في المنازل.. كلّها وعود تتسلّق الجدران وتضمحلّ مع هلال الشّهر في العام المقبل لمن كتب الله له شهودَه..
هي عادات حميدة، احتفال بعيد من أعياد الله التي شرعها وأقرّها.. فرح للأهل واستقبال للضّيوف وإكرام للأحباب.. وحتّى تعب أمّهتنا  وزوجاتنا وأَخَوَاتنا وبناتنا ينبغي أن يُوَجَّهَ للشّكر لا للشّكوى بمساعدتهنّ وتذكيرهنّ بأنّ هذا الاحتفال إنّما هو لشعيرة من شعائر الله..
تعب ينبغي ألاّ يدخل حدّ المغالاة والتّبذير.. وألاّ ننسى منه من ضاقت عليه الدّنيا وعجز عنه..
كلّ عام ومطابخكم عامرة في الأعياد شكرا لله..

فن الدعاء في رمضان

التقى هوّاري وعبد القادر بعد الإفطار متوجّهين إلى المسجد لصلاة التّراويح.. لكنّ هواري فاجأ عبد القادر بأنه غَيَّرَ المسجد لأنّه عثر على مسجدِ آخر فيه إمامٌ يدعو جيّدا.. أي والله.. بل إنّه يدعو "رَوعة!"..
الدّعاء من معايير الجودة "إيزو" لصلاة التّراويح.. فهو مُؤشِّرٌ على ورع الإمام، وجمال صوته، وقدرته على الإبكاء!..
لا أفهم كيف نستطيع تقييم الدّعاء.. بين جيّد وحسن وضعيف؟.. ربّما كُشِفَ الحجاب عن بعض النّاس حتّى عرفوا هل هو مستجاب أم لا؟!..
الدّعاء عندنا تحوّل من صلة بين العبد وربّه وعبادة الغرضُ منها اكتساب الأجر وتحصيل المطلوب إلى وصلات إنشاديّة وربّما غنائيّة أيضا يتبارى فيها المؤدّون بين مقامات الصّبا والنّهاوند.. ويطرب لها الجمهور.. فيبكون بكاءاَ لا يبكونه أمام آيات الوعيد وكلام الحقّ..
من هنا أصبحت رنّات الهاتف دعاء.. ورنّات الانتظار دعاء.. وخلفيّات المسلسلات والإعلانات دعاء..

الاعتكاف

أمن يتدخّل لإخلاء معتكفين في مسجد.. في بلاد المسلمين.. العرب.. والمسلمون الأتراك يخصّصون قرابة الألف مسجد للاعتكاف.. والإمام الخطيب في كلّ مسجد يُذكِّرُ النّاس بالعشر الأواخر من رمضان، وضرورة الاجتهاد، ويُذكِّرُهُم بسنّة الرّسول.. الاعتكاف في العشر الأواخر؟!..
الاعتكاف فرصة لتذكيرنا بأن الدّنيا وما فيها ملعونة إلاّ من ذكر الله أو عالم أو متعلم.. فهُجران الدّار ولو لبضع أمتار وملازمة بيت الله تذكِرة لنا بحقارة الدّنيا.. وأنّ خير ما فيها عبادة الله..
لقد نسينا هذه السُّنّة.. ولولا كتب الفقه لما تعرّفنا عليها.. ربّما لأنّ الدّنيا تُملِكُتنا.. أو ربّما لأنّ الضّرورة أغلقت المساجد إلاّ في أوقات الصّلاة..
نسينا أمرا مهمّا جدّا.. فلقد علمت أنّ المساجد تستهلك الكهرباء كثيرا!!.. فإذا أضفنا استهلاك الماء.. واعتكفنا فزدنا من استهلاك الماء والكهرباء.. أثقلنا كاهل الاقتصاد..؟!
فليعتكف كلّ منّا في بيته.. يكفينا هُجران الدِّيار للاستجمام والاسترخاء والتخييم والسّباحة والتّسلق.. فلنمكث في بيوتنا قليلا!..
كل عام وأنتم في بيوتكم..

لا تثقلوا على أهل الجنائز في رمضان

ربما تكلّمت كثيرا عن جنائزنا.. ولأكثر من مرّة.. لكنّني وجدت نفسي أكتب عنها مرّة أخرى لموافقة شهر رمضان..
عندنا، يجتمع النّاس على أهل الميّت للعزاء.. وسرعان ما يتحول العزاء إلى قاعة شاي ومطعم بعيدا عن العبرة والموعظة الحسنة وتذكّر الموت والآخرة.. ولقد شاهدت بأمّ عيني أناسا يرفعون هواتفهم لدعوة الأصحاب إلى عشاء الفُرُوق كما يُدعَى المعازيم إلى الوليمة!!!..
وفي رمضان يجتمع النّاس على أهل الميّت بعد التّراويح لأكل الطّعام (الكسكس).. فأهل الميّت مع ما هم فيه من مصيبة الموت.. مُجبرُون على تحضير الأكل لإفطارهم.. وإفطار أهلهم المسافرين.. ثم تحضير العشاء بعد ذلك للجيران والأصحاب الذين يمكنهم الحضور والمواساة لساعة من الزّمن، يرتشفون بعض القهوة ويأكلون بعذ الشاميّة ثم يمضون إلى ديارهم للسّحور..
لماذا لا نبدأ بتغيير عاداتنا لتتوافق أكثر مع الشّرع ولنخفّف على بعضنا البعض، ونهتمّ أكثر بالمواساة من اهتمامنا ببطوننا..
نسأل الله الهداية!

العشر الأواخر من رمضان

كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر من رمضان أكثر من غيرها.. أمّا نحن فنجتهد فيها دون غيرها.. وشتّان بين الاجتهادين!.. أن ندرك أن الله معبود سائر الأوقات وفي كل مكان، إلاّ أنه زاد الفضل في بعض البقاع، وفي بعض الأوقات، فهذا أمر مقبول.. أمّا أن نعبد الله في المواسم  والأعياد وعند الحرم.. ثم نعصيه باقي الأيام، وفي كل شبر من الأرض.. فهذه تجارة خاسرة بوار لا ربح فيها..
سمعت عن موظّف ترك مكتبه والنّاس قيام من الصّباح إلى المساء حوائجهم لا تقضى ولا يقضى عليها.. لأنّه لا يعمل في العشر الأواخر من رمضان لأنّه يعتكف ويجتهد فيها..
وسمعت عن طبيب يأتي متأخّرا، ويخرج قبل الدّوام ويحث الممرّضين على زحلقة المرضى لما بعد العيد لأنه يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويلتزم المسجد ليلا، فلا يقوى على العمل نهارا..
الاجتهاد في الطّاعة لا يكون إلاّ من الفرائض للنّوافل.. أما قلب البوصلة وبدء الاجتهاد بالنّوافل طمعا في الوصول إلى الفرائض فغايته تضييع الفرائض والنوافل معا..
أداء حقّ العمل والعمل بالأجرة على تمامها ركن من أركان هذا الدّين.. فكيف بمن ضيّع ركنا من أركان الدّين أن يأتي بالنّوافل من قيام واعتكاف وجوار..

رائحة رمضان

تتطوّر حاسّة الشمّ عند الصائم بشكل رهيب!.. يصبح قادرا على تتبّع مسار الروائح وفرز مكوّناتها.. لدرجة أنّه يستطيع تحديد مكوّنات طبق اليوم دون الدّخول للمطبخ.. حريرة أم شربة، سمك أو لحم، وأيّ نوع من السّمك، وأيّ نوع من اللّحم، وكسرة منزل أم  رغيف من المخبزة.. ويصل حتّى إلى أنواع البهارات..
فلا عجب إذا كنّا نتحدّث عن رائحة رمضان، وكيف تغيّرت عبر الزمن.. والحقيقة أنّها ليست إلا رائحة الطّبخ التي يجعلنا الجوع أكثر حساسيّة لها، وتجعل عقولنا تربطها برمضان، فنَحِنُّ إليها كلما تغيّرت كمّية اللّحم أو السّمك أو البهارات..
فرمضان ليست له رائحة، وحنيننا إلى رمضان أيّام زمان لا يعدو كونه حنينا إلى طبخة أمٍّ أو جلسة أبٍ أو ضحكة ابنٍ أو وجه حبيب أو حبيبة.. إنّها الأيام لا تعود ولا تكرّر، ولكن طَيفَها يلُوحُ كلّما لاح قَرِينُها، وقرينُ الأيّام رائحة أو عطر أو نغم أو كلمة أو لون..
جعل الله أيامنا وأيامكم بروائح الإيمان والطّاعة، وأعاذنا من روائح الفرقة والفراق..

صيام وصيام

قرّرت من زمان أن لا أبرح بيتي في رمضان!.. لكن للضّرورة أحكام، عمل وتسوّق وزيارات.. والحقّ أن كلّ شغل يصبر لما بعد رمضان، أدفعه لما بعد رمضان..
سمعت أن شابّين ضُبطا بفعل فاضح في مكان عامّ نهار رمضان.. شابّ وشابّة! حتى لا تشطحوا بأفكاركم بعيدا!!!.. وسمعت موظّفا يحلف ويقول لمواطن لقد حلفتُ ألاّ آخذ أقلّ من كذا وكذا لكي أخدمك (على سبيل الرّشوة طبعا)، لا أريد أن أحنث، فالحِلف عظيم!.. كلّ ذلك في نهار رمضان..
هو صيام بعض النّاس في رمضان.. لست أدري لمن يصومون.. وكأنّنا في وثنيّة الإغريق.. إله للصّوم وآخر للصّدق، وإلهة للحبّ.. فلك أن تصوم لهذا الإله، ثم تزني فتغضب إله آخر غير إله الصيام، ولك أن تكذب، ولن يغضب إلاّ إله الصّدق..
لقد نال منّا الفُصام وازدواجيّة الشخصيّة حتى صرنا مجانين..

ومن يعظم شعائر الله (2)

كنّا نتسابق ونحن صغار إلى الصّيام، ويفاخر بعضنا بعضا بالصّيام.. أتذّكر عندما كنّا نتحاشى أصحابنا ونحن مفطرين.. ونُخرج ألسنتنا لنبرهن لأصحابنا..  ونتعاير بيننا.. "وَكَّال رَمضَان، مَحرُوق الاعظَام!!.."
لا يفطر أحدنا في رمضان إلا لعذر.. على مضض.. لكنّنا نرى اليوم النّاس تتسابق إلى أعذار رمضان لكي تفطر.. سمعت عن مرضى نسمّيهم نحن مجانين.. يرفضون الإفطار.. وأعرف عجائز انحنت ظهورهم.. يرفضون الإفطار..
لكنّي أعرف طلبة جامعيين.. في إقامات جامعية.. بوجبات ساخنة.. وأسرة وساعات صيام مخفّفة.. يُفطرون لأنّهم على سفر.. أي والله!.. ويقولون أن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما تؤتى فرائضه..!؟ 
وأعرف من أفتى بالإفطار لأهل الكرة.. رياضة الجري وراء جلد منفوخ.. لم تكفنا أموال تدفع في كرة تنطّ هنا وهناك.. حتى صار يُباح من أجلها الفطر في رمضان..؟!
ولست أستغرب إن خرج علينا يوما من يُجيز الإفطار لمن أحيا حفلا يميت فيه قلوب الناس.. أو اشتغل بالتمثيل في فيلم لأنه كمن يجاهد في سبيل الله!.. أو خرج في سياحة لأن في شرعنا "ساعة وساعة"..
لقد بلغت جرءتنا على الدّين حد الوقاحة.. وبلغ استهزاؤنا بشعائر الله حد استنزال العذاب..
اللهم عافنا في ديننا ولا تسلط علينا في عبادتنا السّفهاء..

ومن يعظم شعائر الله (1)

أعرف عجوزا لا تحبّ الإفطار في رمضان.. فرغم كبر سنّها ومرضها الشّديد وتحذير الأطبّاء، لكنّها لا ترى نفسها تفطر في رمضان!!!.. جَرَّبَت اليوم الأوّل ثمّ الثّاني.. ثمّ أَنهَكَهَا المرض وأوقعها!.. عندها أفطرت على استحياء.. بعيدا عن أعين أولادها.. وتمنّت عليهم ألاّ يخبروا أحدا.. وأعرف شيخا كذلك.. وشيوخا وعجائز يُمضون اليوم على الفراش لكن لا يفطرون.. إنّهم يعظمون شعائر الله، ويرون انتهاك حرمة الشّهر كفرا!!
ورأيت في العام الماضي شُبَّانا بقنّينات الماء نهارا.. لأنّ أعمالهم شاقّة، ولأنّ العالم الفُلاني أفتى بجواز الإفطار لأصحاب المهن الشّاقة.. وآخر عندما خَاصَمَهُ النّاس قال لهم.. أنا مريض.. المرض عذر.. والمشقّة عذر.. لكن الأكل أمام النّاس في ساحة عامّة لاعذر له.. ولك بيت ولك مكتب ولك مساحة تختلي فيها مع نفسك..؟!
فرق بين من يرى رمضان من شعائر الله، وبين من يراه عقوبة يبحث لها عن عذر ويجاهر به وكأنّه البراءة من ذنب عظيم..
كلّ عام وأنتم بخير..

حلق وحلقات

كانوا يجتمعون على تمر أو قصعة لبن يتناولونها الواحد تلو الآخر، ثم يمضون كلّ واحد إلى شغله.. وأشغالهم تجارة يديرونها أو حياكة أو نجارة أو زراعة.. يأتيهم رمضان فلا يتغيّر شيئ.. يقضون صلاتهم ثم يمضون إلى أشغالهم.. يُفطرون على تمر أو لبن أو ماء.. أو أكثر من ذلك لمن له ذلك.. ثم ينشغلون بذكر وصلاة ودعاء.. وإذا دعا داعي الجهاد أو الدّعوة لبّوا.. كانوا يتحلّقون حول آية أو ذكر أو علم.. أو طعام.. كانو يتحلّقون حول نبيّهم.. كانت لهم حِلَق لا تعرف رمضان إلى كما تعرفه بطونهم..
ليست لنا حِلَق كحِلَقِهم.. فنحن لا نَتَحَلَّقُ إلا لتصوير مصيبة أو النّظر إليها.. لكن لدينا حَلَقَات.. حَلَقَات نعرفها في رمضان.. لا نستطيع تركها حتّى للصلاة!.. فربما تزوج أَبُو كُعَالَةَ من أُمِّ الخُدُودِ في هذه الحلقة؟!.. ولدينا حلقات من السّخرية والسّماجة.. وأخرى من التّفاهة والوقاحة.. وحلقاتنا تعرف رمضان وتُنسَبُ إليه..
كانت لديهم حِلق.. ولدينا حَلقات.. الجذر واحد والفرع شتّان.. 

من شهر الصيام إلى شهر الأكل

مع مرور أيّام رمضان، واستتباب الأمن على مستوى المطابخ وقبالة التّلفزيونات، استقرّت المتابعات على نوع من البرامج ما كانت لتحتلّ لها مكانا بين المسلسلات والكاميرات الخفيّة في الماضي.. إنّها برامج البطن والمُصرَان..
لقد انتقلنا من مجرّد برامج أسبوعيّة عابرة للطّبخ تقدّمها سيّدة أو سيّدتان على المستوى الوطني.. إلى برامج متخصّصة بميزانيّة ضخمة همّها الوحيد، الجهاز الهضمي.. وانتقلنا من مجرّد برنامج عن كيفيّة سلق الخضار أو تحميص الدّجاج أو تحضير المقروط.. إلى مسابقات في الطّبخ للمحترفين، وأخرى للهواة، وأخرى للأزواج، وأخرى للمشاهير، وقعدات حول أطباق، وسفرات للأكل والطّبخ، وتحدّيات في الطّهي، وبرامج للمقالب عن الطّبخ..
لقد صار الطّبخ ترفا واحترافا وفنّا وعلما بعد أن كان مجرّد وسيلة لإشباع البطن.. فصار غاية في نفسه هدفا قائما بذاته.. لدرجة أن برامجه صارت تحتل الصّدارة في رمضان عوض المسلسلات والمقالب ورنّات العود..
والعجيب إقبال النّاس على هذه القنوات في رمضان نساءا ورجالا.. ربّما بدافع الجوع.. ولكنّ هذا الإقبال يستمرّ حتى بعد الإفطار.. ربما بدافع الشّبع..؟!
المهمّ أنّنا صرنا نقدّس الأكل في حياتنا وصار له حيزّاً أكبر من مجرّد سدّ رمق أو دفع جوع.. فهل هو دليل رقيّ للإنسان.. أم دليل شهوانيّة وخلود إلى الأرض؟

أواسط رمضان.. أو التكيف

صرنا لا نحسّ بالجوع في رمضان، أصبحنا نأكل أكثر فأكثر على الإفطار.. صار السّحور دَسِماً أكثر، ولا فقدان للشّهيّة بعد صلاة التّراويح..
تعوّدت أجسامنا على الصيّام.. وأصبح الانقطاع عن الطّعام عادة أكثر منه مصابرة ومكابرة.. اختفت مظاهر الشّهوة الجامحة عند رؤية الزّلابيّة نهارا.. لقد تعوّدنا عليها.. واقتنع البطن الباطن أن مآلها إليه بعد الأذان..!
للجسم قدرة عجيبة على التكيّف.. وللعقل كذلك.. الصّيام أوّل رمضان صعب وثقيل.. لكنّه في هذه الأيّام أضحى جزءا منّا.. أَلِفنَاه وتعوّدنا عليه..
كذلك حالنا مع كلّ شيء جديد.. نستثقله، نتحمّله، نصبر عليه، ثمّ نعتاده ونتعوّد عليه، وفي الأخير سَنُحِبُّه، ونتمى عدم زواله!!.. إنّه التّغيير عدوّ الإنسان..
وإذا كان هذا التعوّد محمود لأنّه على العبادة والطاعة.. فهناك تعود مذموم لإنّه على الذّلة والمهانة..
فرؤيتنا لأطفال فلسطين والعراق ولبنان كانت تحزّ في نفوسنا ونحن أطفال صغار.. فنتكتب وندعو ونتأثّر وربّما نبكي.. أمّا اليوم فقد تعوّدنا على ذلك وزدنا عليه سوريا وليبيا واليمن.. وصار ذلك أمرا عاديّا وعادة مألوفة..
وأخشى ما أخشاه.. أن نحبّ ذلك يوما..

صيام عن طلب العلم

يتصادف رمضان غالبا مع رغبة جامحة إلى الخمول والكسل.. يطلب الجميع فيه الرّاحة والعطلة.. بدافع العبادة والتفرغ للصّلاة والقيام طبعا؟!.. مع أن أكبر الفتوحات الإسلاميّة كانت في رمضان.. والأدهى من ذلك والأمرّ.. أن التّلاميذ والطّلبة يطلبون تأجيل الامتحانات.. وساعات الدّراسة تُقلّص أيضا في رمضان..
مع أن الطّالب أو الطّالبة، وخاصّة الجامعيين، يمضون جلّ وقتهم أيّام السّنة في جامعاتهم، وربّما يكتفون بوجبات خفيفة أو بعض الحلوى.. في وهج الشّمس.. دون أن يشتكوا من الجوع أو الضّعف أو الوهن.. إلاّ ما رحم ربّي طبعا..
أمّا في رمضان.. فمع تقليص مدّة الدّراسة للحصّة الواحدة.. وتأخير ساعة الدّخول.. وتقديم ساعة الخروج.. تراهم سكارى وما هم بسكارى.. ويودّ أحدهم لو نام في المدرّج أو في قاعة الدّرس.. وتجدهم يجادلون في الفحوص والامتحانات.. وربّما تغيّب الفوج كاملا إذا كان الحضور غير إجباري..
ويستوي في ذلك الطّلبة الدّاخليّون وغيرهم.. فإن لكان للطّلبة الدّاخليين بعض من أعذار خدمات الإيواء والإطعام.. فما عذر الطّالب الذي يقيم على بعد أمتار من الجامعة؟
إذا كان طلب العلم يشقّ علينا في رمضان.. فكيف نطلب من البنّاء والحمّال وأصحاب المهن الشّاقّة مواصلة أعمالهم فيه؟؟
كلّ عام وأنتم بخير.

سهرات رمضان

كلّ شيء صار يُنسب إلى رمضان.. فبعد الحلويّات الرّمضانيّة كالشَّامِيّة والزّلابيّة وأصابع القاضي، والأطباق الرّمضانيّة كالسَّفَّةِ والحَرِيرَة.. جاءتنا ريح عاصف بالبرامج الرّمضانيّة والمسلسلات الرمضانيّة والسّهرات الرّمضانيّة..
واستوقفتني سهرة رمضانيّة بعينها لم أجد ما أُعلِّق به عليها أبِالكتابة أم بالإشارة أم بالسبّ أم بالصيّاح وشقّ الجيوب!! رأيت ولست أدري حقيقةً أم مناماً أن شُبَّاناَ اجتمعوا واكتَرَوا قاعة عظيمة لمشاهدة مباراة بين الرّيال وليفربول.. إلى هنا قد يكون الأمر عاديا، ولو لم يكن! لكنّه في زماننا، أصبح عاديا.. ثم أدركت أن الاجتماع نظّمته رابطة مشجّعي ريال مدريد!!.. هل جاء الإسبان للتّبادل الثّقافي معنا عن طريق رابطة مشجّعي كرة القدم.. كلاّ! هل هناك جالية إسبانيّة مقيمة في الجزائر تشجّع فريقها الملكيّ.. لا! إنهم جزائريّون فقاقير مَكَادِيح.. أسّسوا رابطة في الجزائر لتشجيع النّادي الملكي؟!؟! أي والله.. رابطة برئيس وأعضاء لتشجيع نادٍ لا تربطنا به أي علاقة.. لا دين.. ولا وطن.. ولا لغة.. ولارنَاكَة!
وفوق هذا وذاك تفنّنت عدسات الكاميرا في تصوير فتيات متبرّجات مائلات مميلات بأقمصة النّادي الإسباني وأعلامه.. وربما لا تعرف إحداهنّ أين تقع إسبانيا من الخريطة..
إنّه زمن التّفاهة والهوان على أنفسنا.. شباب بعمر الزّهور همّهم في حياتهم تشجيع النّادي الملكي.. والله غالب على أمره.

أنغام رمضان

من المضحك المبكي في رمضان، ارتباطه الغريب العجيب بالموسيقى.. أي والله!.. الموسيقى في رمضان!!.. فالحفلات السّاهرة الرّاقصة الطّنّانة الرّنّانة لا تحلى إلا في رمضان.. ونسمّيها السّهرات الرّمضانية.. وجلسات الأنس والطرب.. تُقام في الخيم.. الخيم الرّمضانيّة.. أي والله!.. حتى شوادي المراقص اللّيلية والملاهي يقدّمون لمجونهم باللّيالي الرّمضانية.. 
هل هو الانتقام من صيام النّهار بالصيّاح ليلا؟ أم هو الاحتفال بأداء الطّاعة نهارا بالهَزِّ ليلا؟
لكم المراقص وخشبات المسارح والسّاحات طول العام.. قدّموا للنّاس ما تشاؤون وما يشاؤون من طرب وغناء وصياح ونواح وعويل.. ولم يمنعكم أحد من القيام بذلك في رمضان أيضا.. ما دام النّاس يشتكون الفقر والغلاء، ورغم ذلك يدفعون لكم لكي يستمعوا إلى هديركم.. فلماذا هذه المزايدة والشّطح والنّطح.. وربط كل ذلك برمضان؟؟..
ألا يكفينا هدر المال وعصيان الرّب، لنزيد عليه الاستهتار والاستهانة بشعائر الله وفرائضه؟..
شأننا في هذا كمن ملأ قنينة الخمر وسَوَّقَهَا وطبع عليها علامة.. حلال!

جمع رمضان

الجمعة من فرائض الإسلام التي يجتمع فيها المسلمون حول خطبة تُذكّرهم بدينهم وتنهض بهم إلى القيام بواجباتهم.. وهي في وقتنا طقس من الطّقوس التي نجد أنفسنا مُجبَرِين على حضوره.. قد نحضرها بعد صعود الإمام إلى المنبر.. أو بعد نزوله.. وأحيانا بعد تكبيره.. المهم تسجيل الحضور.. أما سماع الخطبة.. فإذا فهمناها، فسننساها عند قول الإمام: إن الله يامر بالعدل والاحسان..!!!
أمّا في رمضان فالأمر مختلف جدّا.. وخاصّة بالمساجد الكبيرة.. نسبة لأئمّتها لا لحجمها طبعا!.. فإذا جئت بسيّارتك.. فعليك التبكير بساعة أو أكثر لكي تجد لسيّارتك موضعا قريبا يُعفيك مشقّة السّير تحت وهج الشّمس وأنت صائم؟!.. ثم إذا دخلت المسجد فستجده عامرا مُكتظّا وكأنّ الناس باتت فيه من ليلة الأمس؟.. ثم هنالك زيادات الإمام في رمضان.. تشغيل تسجيلات القرّاء من دخول وقت الضحى!.. وزيادة تطويل الدّرس وتقديمه عن موعده.. تأخير الصّعود إلى المنبر.. وإطالة الخطبة.. وطبعا جمع التبرّعات.. والحثّ على إعانة الجمعيّة الفُلانيّة والمُؤسّسة العِلّانيّة.. وفي خضمّ هذا كلّه.. النّاس بين منشغل بالقراءة في مصحفه.. أو بترتيب عباءته الجديدة التي يخرجها من مخبأها من رمضان إلى رمضان.. أو نائم بالقرفصاء أو مستلقيا على بطنه.. وقليل من يستمع أو يلقي للإمام بالا.. إلا في الخطبة طبعا؟!
أمّا بعد انقضاء الصّلاة.. فالطّريق إلى العودة أطول من طريق الهجرة.. فجموع المصلّين لابد من أن تسلّم على بعضها وتسأل عن أحوال بعضها، ماذا تسحرت وماذا أفطرت وماذا ستفطر وأين ستصلي التراويح وأين ستصلي العيد وهل أخذت عطلة في رمضان ومتى تتوجّه إلى الوظيفة.. وكلّ ذلك وهم قيام عند باب الجامع.. ثم بعد أن نَتَكَركَر عند رفوف الأحذية ونَتَعَصَّرَ عند الأبواب.. نجد الجموع عند باعة الحشيش والبطيخ والزلابية عند الحدود الإقليمية للجامع.. فبعد أن يشتري كل واحد من المصلين فواكه لَيلَتِه.. تَنفَسِحُ الطرقات لك لكي تشق طريق العودة إلى بيتك..
هي جُمَعُ رمضان.. ينقص نصف رُوَّادِها بعد العيد.. وتَتَفَسَّح مداخل أبواب جوامعها.. جعل الله كل جمعنا كجمع رمضان.. مع قليل من الأدب والنظام إن أمكن، إذا لم يكن في هذا إحراج للبعض!!

نوم الظالم عبادة..

في رمضان.. يقضي بعض النّاس نهارهم أو جُلَّه وهم نائمون.. وكثيرا ما نسمع ونقرأ عن فضائل الصيام وأجر العاملين في رمضان.. وكيف أن النّوم نهارا يغيّر السّاعة البيولوجية  ويسبّب اضطرابات في النّوم الطّبيعي ليلا وفي السّلوكات ويؤدّي إلى العدوانيّة والتّعب و.. و.. و..
ولكن؟ هذا حال من أراد الصّيام.. وأراد العيش بسلام.. وأراد صحة وعافية واطمئنان!!.. أمّا من لا يحلو له العيش إلا ضنكا.. ولا يطيب له المقام إلا وسط الفوضى والنّزاع والصّياح والضُّبَاح.. ولا يستطيب الناّس إلا ضاربين أو مضروبين.. مُكَدَّرِين مُعذَّبِين أو مُعَذِّبِين.. فهل ننصح هذا بالنّشاط في رمضان وعدم النّوم نهارا..؟؟!
مثل هؤلاء لم يفقهوا حقيقة العيش والمشاركة والحياة أصلا.. فهل لهم فقه بالصيّام والعبادة وحكمتها ومقاصدها!؟!.. فمقصدهم في هذه الدّنيا واحد.. مُنَاكَشَةُ خلق الله ولو أمواتا بنبش قبورهم!!.. فلا تراهم في محلّ إلاّ مُنَاكِفِين للبائع أو مُتَغَلِّظِين على المُشترِي.. ولا تراهم في الشّارع إلاّ مُقَلِّبِين أبصارَهم مُستأذِبِين على عابِرٍ هُنا أو مَاشِيةٍ هُناك.. ولا تراهم في بيوتهم إلا مُتَأَفِّفِين على آبائهم أومُستَقوِين على زوجاتهم أو مُنزِلِين أشدّ العذاب على أولادهم..
لكلّ هؤلاء.. ناموا تصحّوا.. ولو استطعتم إلى النوم الأبدي السرمدي سبيلا.. فلا تستيقظوا.. ما فاز إلا النُّوَّمُ..

عن التراويح أحدثكم..

من مظاهر تخلّفنا وانحدارنا في قعر وادي الظّلام.. ابتِعَاثُنا لدِينٍ جديد مُنمّق مُتبرّج مُنسّق بطلاء لماّع ودهان برّاق.. إنّه الحسنة النّظيفة الجميلة البعيدة عن العرق والكد والمصابرة..
فمن كل العقائد والفقه والأخلاق التّي جاء بها ديننا الحنيف.. لا يحلوا لنا إلا الفروع دون الأصول والحواشي والهوامش دون القلب..
فإذا تغيّبت عن صلاة التّراويح فرُبّما بَطُلَ صيامك.. وإذا لم تزاحم النّاس على القارئ الشّجي البَّكَّاء النّديّ واكتفيت بالصّلاة عند إمام الحيّ مع العجائز فلماذا تصلي؟؟ وكيف تسمّيها تراويح؟!!.. فالتّراويح هي العبادة الأولى ودونها دخول جهنّم.. وياحبّذا لو لبست سُعُودِيّا أومِصريّا.. واكتَحلتَ وتَمَسَّكت.. وبكيت.. لقد وجبت لك الجنّة! ولو تخلّفت عن كل فرائض اليوم.. ولو سببت وشتمت وغششت في عملك وأكلت مال النّاس واغتبتهم بين كل ترويحتين!.. فكلّ ذلك ليس من الدّين في شيئ.. وتُكَفِّرُهُ ركعة في الجامع القطب مع دمعتين.. وليتها دمعتين على آية وُعِيدٍ أو آية عذاب.. بل دمعتين على دُعاءٍ لم يرد به الأثر وربّما كان فيه كفر بواح!؟
لا يهمّنا قلبك أو معاملتك أوتفانيك في عملك أو كفّك أذاك عن النّاس.. ما دُمت لست في واجهة التّراويح أو واجهة العِيد.. فأنت "ناس ملاح" لكنّك لست مُتَدَيِّنا؟؟ أمّا لو كنت عكس ذلك.. فأنت شيخ!.. ولو رأيناك تزني على قارعة الطريق..!!!
إنّه الدّين الجديد الذي جعل دعاء المليار من النّاس لا يحرك في إسرائيل شعرة أو ظفرا..
إسلام معتدل في زمن التطرف..

عقارب الساعة.. والصيام

قرأت مرّة كيف وصف أحدهم عقارب السّاعة في رمضان.. وكيف أنّها تتأثّر بالصّيام.. فهي نشيطة تجري كالسحاب حتّى منتصف النّهار.. ثمّ تظهر عليها علامات التّعب فتتباطؤ كجري الطّفل الصغير حتى بُعَيدَ العصر.. ثمّ تُنهَكُ وتخور قواها لتَحبوَ حتّى قُبيلَ المغرب.. عندها تصاب بالإغماء.. لتُدفع إلى الأذان دفعا فتُحس الدّقائق الّتي تسبق الأذان كأيّام.. ثمّ تنشط بطريقة عجيبة بعد الأذان فلا تجد نفسك إلاّ وقد استفقت بعد إغماء السّحور!؟
والحقيقة أن السّاعة وإن كانت وفق الفيزياء والطبيعة والقياس واحدة، مع اعتراض بعض أهل النسبيّة على ذلك؟!.. إلاّ أنّها وفق الاستعمال البشري ونواميس الانتظار والتّرقب مختلفة جدّا.. فالصّائم لربّه يجد يومه قصيرا عن العمل والعبادة والطّاعة.. ينقضي يومه وهو عنه راض.. أمّا الصّائم عن الأكل فيومه بعدد قَرقَرَاتِ بطنه.. كلّ قَرقَرَةٍ بِسَنَة!.. لا يُعينُه في ذلك إلا النّوم أو اللّعب.. 
وكذلك القائم لربّه، يقضي ليلته بين أكل وشرب وصلاة ودعاء..ونوم!.. لكلّ ذلك مُتَّسَعٌ ومكان.. أمّا المحتفل بأكله وشربه مُنتقِما من يومه الجافّ والنّاشف.. فلا يكاد يلهو أو يلعب قليلا.. إلاّ وتباشير الصّباح قد لاحت.. وذهب عن هذا وذاك نفس الوقت بحساب السّاعاتي.. ولكنّ الحساب عند أهل التّدبير حساب آخر..
فأي الفريقين أهدى؟

الصيام للإحساس بالفقراء؟

لا أظنّ أنّ صيامنا يذكّرنا بالفقراء.. الفقير الذي لا يجد قوت يومه.. ويُخفي فقره عن النّاس فيظهر بلباس متواضع والجوع قد نال منه وربّما لم يذق الطّعام ليوم أو أكثر.. أو الفقير الذي يقتات على خبز وماء.. أو الفقير الذي لا يجد الّلحم إلا هديّة يوم العيد..
هل نصوم ونحس بجوعه؟ فهو لا يشتري نصف السوق ويملأ بيته برائحة اللحم طول اليوم فيُشبع أنفَه قبل الإفطار وبطنَه بَعده.. ثم ينقلب بعد الإفطار على بطنه من التخمة.. هو لا يمضي نهاره نائما لأنه يَكِدُّ ليفطر على شربة ماء أو قطعة خبز.. هو لا يقلّب القنوات ويمضي نهاره على الأنترنيت لأنّه لا يملك هاتفا أرضيا أصلا، وإن عاد إلى بيته فلِيرتاح دقائق قبل المغرب..
إذا كُنتَ لا تجد لك من هؤلاء نصيبا فاعلم أنّك لستَ فقيرا ولا تعرف للفقر معنى..
وإذا كنت تقول أنّه لا يوجد من يَرُدُّ فقيرا فموائد الرحمن مفتوحة والخبّازون لا ينهرون فقيرا عن قطعة خبز..  فَلستُ عن هؤلاء أُحَدّثُك.. إنهم الذين لا يسألون الناس.. ويحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف..
فإذا وقفت على أحد منهم، فلا تفوّت عليك أجر الصدقة في رمضان.. فعليهم أنفق كل مالك ولا تتحسّر..

دعني.... فأنا صائم!

العمل عبادة على قول الصالحين.. فما بالك في رمضان، الموظّف يتقاضى راتبه ليقوم باستقبال المواطنين والتكفّل بانشغالاتهم وقضاء حوائجهم، وهو على ذلك يؤجر.. ومواقيت العمل في رمضان تقلّص بساعة أو نصف السّاعة لأنّ الموظّف لا يحتاج إلى راحة الغذاء! فهو صائم؟
في دائرة من الدّوائر انتظرنا عند الباب الخارجي من السّاعة الثّامنة والنّصف إلى التّاسعة والرّبع موعد بدء الاستقبال.. ثم انتظرنا بالدّاخل حتى تكرمت علينا الموظفة بالحديث.. ثم انتظرنا وانتظرنا وانتظرنا بين كتابة وتحرير وطباعة وإمضاء..وكل ذلك ونحن ندعوا الله أن لا تدقّ السّاعة لمنتصف النّهار.. موعد نهاية الدّوام؟!!!
وكلّ ذلك وجيش من الموظّفين والأعوان بين جلسات لا ينقصها إلا الشّاي.. ودخول وخروج وبوس وعناق وكأنّهم لم يرو بعضهم لأعوام.. وأمام أيّ احتجاج أو تذمّر.. والله إنّي متعب! لم أنم البارحة وأصبحت صائما!! وهل نحن مفطرون؟؟ فكل النّاس صائمون في رمضان.. والجواب الشّافي الكافي المُعافِي فوق هذا وذاك: إذا أردت نصيحتي.. عد بعد العيد!؟
وبعد الإفطار، يتجمّل الكلّ رجالا ونسائا متوجهين إلى الجامع القُطب لأداء صلاة التراويح.. في ركوع خشوع ودموع..
إنّه قمة الإيمان والتوحيد والإخلاص.. لا نعبد إلا الله وحده.. أمَا عَبِيدَهُ.. فنلعنهم ونلعن آبائهم.. إنّها عقيدة التّوحيد..

رمضان والضحك

يتسابق الإعلام لإنتاج وبثّ المسلسلات الفكاهية وبرامج المقالب في رمضان من كل عام.. وصارت بعض المسلسلات الفكاهية وبعض برامج الكاميرا الخفية مرتبطة برمضان.. وكأنّنا في رمضان نحتاج لجرعة زائدة من المزاح والضحك والتهريج..!؟
رمضان شهر للعبادة والمضاعفة أجر الفرائض والنوافل.. أما مواصلة السيرك الذي نعيشه طوال العام في ضحك وقهقهة فلم نعرفه في رمضان إلاّ زمن الانحطاط والتّكركر..
وأيّ ضحك وأيّ تسلية.. لكنّي بنا وقد استنفذنا الجرعة الطبيعية للمزاح واللهو، ورحنا نبحث عن جرعات زائدة وغير طبيعيّة.. كالمدمن الذي طال إدمانه فأصبح المخدّر لا يجدي معه نفعا.. فراح يزيد الجرعات ويخلط السموم حتى توفّاه الله وهو على المعصية!!!
لقد صارت محاولات الإعلام الفاسد لإضحاكنا يائسة لدرجة الخوض في أعراض النّاس.. واستغلال ضعفهم ولحظات خوفهم ورعبهم.. وتعمّد استفزازهم لقول القبيح من القول والتّظاهر بحذفه واستبداله بالطّنين والأزيز والصّفير.. وحتّى الدّفع لبعض المشاهير لمحاكاة الغضب والرّعب وسب الدّين وابتذال المُشاهد بإلقاء الكلمات النّابية الخادشة لكل ذوق واحترام..
ويسمّون كلّ ذلك فنّا وتمثيلا.. ونحن نزيد في ذلك برفع نسبة المشاهدة والمتابعة..
فبين مزاح وسخرية.. وبين أكل وشرب.. وبين فسق وعري.. نعبد الله في رمضان.. شهرُ الكفِّ عن المباح والصّبر وترويض النفس.. كل عام وأنتم بخير..

وما دخلي بزواجهم ؟؟

لا أستطيع وصف كمّ الغمّ والهمّ الذي امتلأت به وأنا أرى قنوات عربية لبلاد تتغنّى بالإسلام وهي تبثّ على المباشر حفل زفاف لأمير بريطاني على غانية أمريكيّة وهي تنقل كل تفاصيله من قصّات شعور المعازيم إلى مقاسات تنانير السّاقطات اللّواتي حضرن هذا الحفل الذي قدمت له المذيعات بأنّه أبهج حفل مرّ بنا منذ عقود.. وأنّه أكبر حدث في تاريخ البشريّة في هذا القرن..!؟ وأصابني الغثيان والإسهال وأنا استمع إلى عبارات الثّناء والإعجاب لزوج من الفسّاق يعقد قرانه في كنيسة كانت بالأمس القريب تحرض على ذبح المسلمين واغتصاب نسائهم..!!!
أيّ وقاحة بلغناها.. بالأمس كنّا نحاربهم.. وندعوا عليهم بالثّبور.. ونقاتلهم لنخرجهم من أرضنا.. واليوم نجلس أمام التلفاز لساعات لنشهد طقوسهم ونستمتع بزيجاتهم ونتناقل أخبارهم.. إنّها العبودية والذّلّ والهوان الذي لا يليه شيئ إلا دخول جهنّم!!!
أطفال غزّة يموتون جوعا ومرضا وقهرا.. ونساؤها يدافعون عن رجال الأمة.. ورجالها بين شهيد وأسير.. ولا ذكر لهم.. وإن كان فلدقائق معدودة في خضمّ أخبار الهند وبلاد السّند..
أما زفاف العهر وأخبار الدنس فنقلها بالمباشر للسّاعات وتحت وهج الشّمس..! وفي رمضان..!!!
كل عام ونحن أمة الذل والهوان والاستعباد..

الشاميّة

الشاميّة جزء من الثّالوث الحلوانيّ الرمضانيّ للجزائريّين بالإضافة إلى الزّلابيّة وأصابع القاضي.. وإن كانت في السّنوات الأخيرة مُزَاحَمَةً من حلوياّت أخرى كالقطايف والكنافة والبقلاوة التي لم نعرفها في رمضاناتنا ربّما لأسباب اقتصادية تاريخية..
ولنا نحن الجزائريّون إضافات لهذه الأيقونة لنجعل رمضاننا أكثر تشويقا وإجلالا.. فجارنا عبد القادر يقطع الطريق السيّار ليشتري شاميّة بوعلام لأنّها الأحلى في رمضان.. أما جارنا بْلَاحَة فلا يشتري إلا شاميّة الهوّاري لأنّها رمز لرمضان في المدينة على حسب تعبيره!؟.. والأجمل من كل هذا أنّه لا بوعلام ولا الهوّاري يصنعون شاميّتهم.. بل تُوَزِّعُهَا عليهم سيّارة تجاريّة قديمة مُهترئة كلّ صباح والله أعلم في أيّ مُستودع نتن تُحَضَّرٌ هذه الشاميّة وفي أيّ ظروف!؟ خاصّة إذا علمنا أنّ بوعلام يعمل حلاّقا باقي أيام السّنة!.. والهوّاري يبيع المُطَهِّرَات ومواّد التّنظيف..؟!
ولا يخلو الحال من حلوانيِّين يبيعون هذه الشاميّة طيلة أيّام السّنة.. ويصنعونها بأيدييهم وأمام أعين زبائنهم.. ويضيفون عليها لمساتهم كطليها بالشّوكولاطة أو جوز الهند أو حشوها باللّوز.. وهم قلّة ولهم زبائنهم.. أما باقي الباعة في رمضان فهم ميكانيكيون أو خبازون أو خياطون كَسدَت تجارتهم في هذا الشّهر فخلطوا السّميد والسّكر وصاروا حلوانيّين.. صح فطوركم.

المُسَلِّيَّاتُ في أيام رمضان


لم أفهم يوما عشق بعض النّاس للفوضى والزّحام!؟ الطّوابير لا تنتهي من أمام محلّات بيع الزّلابيّة والشاميّة والمخابز طول اليوم.. السيّارات متوقّفة في الصفّ الثّاني والثّالث أمام هذه المحلات، بالرّغم من وجود المكان المتاح الذي لا يعرقل حركة ولا يزعج أحدا!!.. حركة السّير متوقّفة تماما.. والكلّ مبتهج مسرور.. هل هي المُسَلِّيَّاتُ في أيام رمضان..؟!
والغريب في الأمر هذا التواطؤ العجيب على إبطاء الحركة وخلق التّجمعات والزّحام من الجميع.. فالزّبون في المحل الفارغ تراه لا يشتري.. بل يتجاذب أطراف الحديث مع البائع عن أحوال البلد وأحوال العراق وسوريا وفلسطين وليبيا والصومال وكل بلاد العالم.. ثم ينضم الثّاني فالثّالث فالرّابع.. ولا يحلو البيع واقتناء السّلعة إلاّ عند امتلاء المحلّ وتكاثر النّاس وارتفاع أصواتهم بالشّكوى والصّياح والعِيَاطِ على بعضهم البعض.. لأّنهم صاروا بقدرة القادر على عَجَل ولهم مشاغل وحاجات يقضونها.. وهُمُ هُمُ الّذين كانوا يُلُوكُونَ الهَوَاءَ والمحلّ فارغ..
وعند مغادرتهم المحلّ لا يحلوا لهم السّير وعبور الشّوارع إلا وقد امتلأت بالسيّارات لمُزَاحَمَتِهَا والتَّبَلِّي على سائقيها وشِرَاءِ الحديث معهم أو بَيعِهِ وافتعال الشِّجَار والعِرَاك.. أما والشّوارع خالية.. فالبحث عن ظلال الجدران ابتعادا عن حرّ الشّمس لأن الصّيام أتعبهم!؟
عجيب هذا النّوع من النّاس الذي يطفح في شهر رمضان.. وتزيد أعراضه.. وإن كان لا ينقرض باقي أيام السنة..

هلال الشهر

ككل عام، يهلّ علينا الشّهر الفضيل ببركاته ونسماته الإيمانية العطرة الفوّاحة.. شهر ينتظره الكلّ وقد تلبَّسُوا بكل أسباب القبول والاستعداد للقيام والصّيام..
على حيِّنا يتهافت كلّ أهل المدينة للتّزوّد بأكياس البطاطا والبصل والثوم والجلبان وأنصاف الخرفان والدَّوّّارَات.. يغلقون علينا منافذ الحيّ كله في منظر مهيب!.. منهم من يتسوّق وهو في سيّارته، يسأل عن الأثمان ويُسَاوِم البائع ثم ينزل ليشتري ويملأ سيّارته وهو في منتصف الطّريق وخلفه زحمة سير كأنّها ليوم القيامة!؟ ولا يجوز لك الاعتراض.. فنحن على أبواب الشّهر الفضيل..
وعند البَّقَّالين، يَتَخَاطَفُ النَّاس كل ما على الرّفوف من دقيق وسميد وعجائن وعصائر وكأنّ أوَّلَ يوم من رمضان هو يوم الفناء الكبير.. وترى النّاس في هذا يسارعون ويركضون في نسق واحد وعلى قلب رجل واحد.. إنّها الوحدة التي تميّزنا والتّضامن الفطري لدى أبناء شعبنا..
أسابق نفسي كي أعود إلى البيت لعلِّيَّ أرتاح من الجري الّذي يفرض عليك في الشّوارع فرضا.. أفتح التّلفاز فأرى القنوات قد أقامت النّدوات والمؤتمرات للتعريف بمنتجاتها للشّهر الفضيل.. نعم يا سيدي! منتجات الإعلام للشّهر الفضيل.. فلا بد من مرافقة الناس في هذا الشّهر كي لا تحيد عن روحانيّة العبادة والفضيلة!.. ولك أن تتخيّل كمّية العري والفسق والابتذال في هذه المنتجات.. وفوق هذا الإسفاف برامج المقالب السّخيفة التي تستغّل عفوية النّاس وتسخر من سذاجتهم..
هذا هو رمضاننا.. بين بطن وفرج وسرير..
تذكّرت شهداء غزة ومشاريع الشّهداء فيها.. للتّسوق هناك معنى آخر.. وللإعلام عندهم هدف آخر.. ولرمضان طعم آخر..
جاء رمضان وأوًّلُ أيّامه غيث ومطر.. مطر لم ينقطع من ليلة البارحة.. ترى؟ هل يكفي لغسل العار وتطهير البلاد منّا؟
كلّ عام ورمضان شاهد علينا..

الشهادة والتعليم والمعرفة

استوقفني اليوم على أمواج الإذاعة الوطنية حديث مع مهندس في الإعلام الآلي وهو يتحدّث عن البرمجة، وكيف أنّه يقدّم دروسا للشّباب عن البرمجة لصناعة التّطبيقات وكيف أن هذه المهنة مربحة خارج الوطن، وفهمت أنها خارج الاهتمام داخل الوطن...
وتذكّرت يوما رأيت فيه إعلانا عن تعلّم لغات البرمجة (بالمقابل المالي طبعا) مُعلَّقا في أروقة قسم الإعلام الآلي (أي قسم تعليم البرمجيات!) في جامعة من أكبر جامعاتنا...
وتذكّرت أيضا مئات الإعلانات في كليّة الطّب عن تعلّم طريقة العلاج هته أو تلك.. وكليّة الهندسة عن استعمال أداة الرّسم هته أو تلك.. وكليّة علم النّفس وكليّة علوم الأرض وكليّة الكيمياء والفيزياء وباقي كليّاتنا التي مَنُوطٌ بها تعليم كلّ هذا.. لكنّ الطّالب وحتّى المتّخصّص الحاصل على شهادة من هذه الكليّات يلتحق بهذه الدورات وينفق الأموال في دروس يقدّمها أحيانا أناس ليسوا جامعيين أصلا!؟
وهنا نلمس مفارقة غريبة أركانها الشّهادة والتّعليم والمعرفة!
فالطّالب في الجامعة يبحث عن الشهادة غير مبال بمعرفة كانت أم لم تكن، ففي سبيل هذه الشّهادة قد يسلك طريق التعليم بشِقَّيه المقرّر والذّاتي (وهو مذهب أهل النية والطيبة، وهم قليل!) وقد يسلك طريق الغشّ أو المقايضة أو القفز أو الزّحلقة أو الطّيران أحيانا (وهو مذهب الشّطار، وما أكثرهم!) وكلّ هذا بتواطؤ من الأستاذ الذي وجد راحته وسكينته بتكرار مقرّرات من زمن ألف ليلة وليلة يمثّل بها دور المدرّس ليبرّر راتبه الذي يتقاضاه آخر الشّهر..
وبعد الحصول على الشّهادة.. يجد الطّالب نفسه أمام جهل مذقع وظلمات بعضها فوق بعض.. فيبحث عن المعرفة بعد الشّهادة التي ينبغي أن تكون مُتوِّجة للمعرفة لا قبلها.. فيسلك طريقا آخر لا يخلوا من القفز والزحلقة والطيران.. عن طريق أشباه المعلّمين في أشباه الدّورات التي تجعل منهم أشباه خبراء يلوكون المصطلحات ويتشدّقون بفتات المعرفة التّي تخدع السّاذج وتستحمر الزّبون وتبقي على جهل الجاهل..
وبين الشّهادات على معرفة معدومة.. والمعرفة السطحية بكلمات لا معنى لها.. ضاع التعليم وانصرف عنه الطالب والأستاذ..


التغيير.. لماذا؟

التغيير عملية تتنافى والطبيعة البشرية. فالإنسان بطبعه الخامل الكسول الجزوع يميل إلى تكرار يومه وتقليد الآخر والسير على خطى من سبقوه لما في ذلك من فوائد جمة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
  • الابتعاد عن النقد والتقريع واللوم، فيكفينا عند الخطأ أن نلقي اللوم على من سَبَقَنَا أو من قَلَّدْنا فهم المسؤولون لا نحن!
  • الراحة والسكينة وتجنب التفكير والإبداع وإهدار الوقت لدراسة الطرق الجديدة ووضع الخطط!
  • ربح المال والوقت بالسير في الطرق المعروفة بدلا من المخاطرة بدروب نجهلها ونجهل غاياتها...

هذه هي إيجابيات التكرار والتقليد، فلماذا نتغير؟ وإذا كانت هذه إرادة العقل الباطن والأنا الفردي والجمعي، فلماذا نعاكس سير الطبيعة؟
والحقيقة تكمن في هذا كله.. فالتغيير من أجل التغيير محكوم عليه بالفشل، والتغيير من أجل الغير مآله التهريج والفشل أيضا! التغيير الحقيقي الذي يُبَدِّل الوضع ويقلب الميزان هو التغيير الذي يحترم طبيعة النفس والمجتمع.. إنه التغيير الذي ينبع من الباطن والصميم، بيقين أن الوضع الآتي خير من الوضع الراهن! إنه التغيير الذي تقهر دوافعُهُ المثبطات وتتجاوز رواسبَ الركود والتقليد والتكرار بالفعل والقوة، وتفرض نفسها كضرورة بقاء للنفس أو المجتمع.
فعندما نقتنع بالعقل والقلب أن الوضع الراهن هو المضيعة للوقت والجهد، وهو المآل إلى الموت الحقيقي أو المعنوي، وهو الطريق إلى الخسران، عندما نتيقن من ذلك بِلُبِّنُا وقالبنا، عندها نبدأ في التفكير الجدي في التغيير والسعي لذلك.. فلابد قبل الشروع في تشييد البناء من هدم الأطلال والأعمدة الهشة فأي بناء فوقها مصيره الهدم..
ألم ترَ السائر في طريق، يبحث عن غيره إذا قطع عليه لص مسلح أو كلب مسعور أوسيل عرمرم؟ لأن الخطر في عينه ماثل حاضر عاجل! فإذا واصل السير في طريقه فهو إما متهور مجنون لا يعتد به وبرأيه، أو أعمى على عينيه غشاوة فهو في غفلة يوشك أن يهلك.
فإذا أراد الفرد أو الجماعة التغيير، وجب إزالة الغشاوة وتمثل الخطر حضورا عاجلا، وإلا كان التغيير عبثا لا دافع له، وكان الركود والتكاسل عنه أقوى من الدعوى إليه.

عندما تكون التكنولوجيا أكبر نقمة

حادث مرور مروع يخلف خمسة قتلى وعشرة جرحى.. إنفجار قارورة غاز.. مصائب نعزي أصحابها ونسأل الله لهم الصبر والثواب!.. كلب هائج يهاجم الصبيان والشبان.. إنفلات في حفلة راقصة.. حريق بعمارة أو فندق أو مركب.. كلها حوادث وقعت في الماضي، وتتكرر في الحاضر والمستقبل.. ولكن.. لماذا يحرص البعض على تصوير أدق تفاصيلها لينقلها للعالمين على المواقع والشبكات؟ لماذا صار أول رد فعل لدينا عند اتفاقنا مع هذه الحوادث والمصائب والوقائع هو تشغيل كاميرات هواتفنا وفتح الشبكات للنقل المباشر؟ هل صار التصوير أول خطوات الإسعاف والمساعدة والتكفل بالمصابين والمذهولين؟
لماذا نصر على تصوير الجرحى والهاربين وفيهم عورات النساء وانكسارات الرجال وارتجافات الأطفال التي قد تَصِمُهُم طول حياتهم، وتُرسِّخُ لهم صورا لا يقبلونها ولا يرضونها؟ لماذا صارت نرجسيتنا وحبنا للسَّبقِ طاغيا حتى على احترامنا للآخر وكرامته وعرضه وشرفه؟
لقد أصبحت التكنولوجيا أكبر نقمة في أيدينا نحن المتخلفون فلم نرعَ لها حرمة أو مكانة.. والجميل الأجمل.. أننا بعد أن نكشف عورات الناس وأعراضهم، نهرع إلى المسجد بعد أن ينطق هاتفنا بالأذان، فنحن مؤمنون! نُحَمِّل الهاتف بالأذان والقرآن والمواعظ؟!
 نتصدر المجالس بين الناس باللسان والتذكير.. ونهتك أستارهم بالهواتف والتصوير! 

زواوة

عندما كنت صغيرا، كان لنا جيران من زَوَاوَة.. وقد كنت صديقا لأبنائهم.. وأتذكّر أنّي درست في المدرسة و في القسم مع زواوة أيضا.. وآخرون شَاوِيَّة.. وآخرون صَحرَاوَة.. وواحد منهم مِزَابي.. وأتذكّر أيضا أن أصحابي في الشّباب كانوا من زواوة.. وأتذكر أن أحد مشايخي ممّن علّمني أحكام الوضوء والصّلاة والصّيام زَوَاويّ أيضا!
وأتذكّر أيضا أننا نتحدّث دوما عن الزّواوة الذين يكرهون العرب والعرب الذين يكرهون الزّواوة.. توقّفت لبرهة وبحثت عن هؤلاء وهؤلاء..  تفحصت الزّواوة الذين أعرفهم فلم أجد من أكره؟ وتأملت فيهم أيضا فلم أجد إلا من علّمني أو أعانني في وقت الشدّة.. 
فكّرت قليلا، وقلت ربّما فِكرِي قاصر!.. وأنّ المسألة لها جذور تاريخيّة تتجاوز عقلي السّاذج المحدود.. أبحرت في أعماق التاريخ.. من فجر الإلتقاء بين الأمازيغ والعرب.. فلم أجد لهم وجودا قبل الفتح الفرنسي الحضاري لبلادنا (كما هو حال باقي الفتوحات الحضارية الغربيّة للعالم البدائي المتخلف).. اكتشفت أنّنا كنّا قبائل ومدن ودول على أرض المغرب أو إفريقيّة بلسانٍ عربيّ فصيح مبين ووحدة دينيّة صلبة راسخة جعلت من حروبنا وسلمنا وعلمنا وثقافتنا في خدمة الإسلام ونصرة المسلمين في الشرق والغرب.. حتّى جاء المحقق كونان الغاليّ الخطير!.. ليخبرنا أننا كنا لقرون غابرة في وهم عظيم.. واكتشفنا أننا عرب وقبائل!؟ ويا للعجب..!؟ في أيام تحقيق الأنساب وعصبية القبيلة والعرق، كنّا إخوة على دينٍ واحد لا يشق صفنا أحد.. وفي زمن ألقاب فرنسا وجهالة الأنساب والأعراق، صرنا عربا وقبائل؟؟! عربا يكرهون القبائل وقبائل يكرهون العرب وكلاهما يتكلم الفرنسية ويرفض لغة الآخر..
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم..

الاستبداد

نتكلمّ جميعا عن الاستبداد، وكثيرا ما ننتقد طغيان الحكّام عندما يفرضون القوانين والسّياسات في اتجاه واحد ولخدمة فرد أو فئة معينة، ونسمي ذلك استبدادا.. وكثيرا ما نتظلّم من رعونة رؤسائنا في العمل وقراراتهم الأحادية من غير تشاور أو مناقشة، ونسمي ذلك استبدادا..
والحقيقة أن هذا النّوع من الاستبداد هو أهون الأنواع، وهو نتاج أنواع أخرى من الاستبداد أشدّ فتكا وأكثر خطرا وأعظم عاقبة.. وهو رأس جبل الجليد الذي يسهل إزالته ولكن الخفيّ منه أعظم وأنكى..
أتكلّم هنا عن استبداد النّفس والصّاحب والأهل والأخ.. فحبّ المعصية على ما فيها من الخسران وكراهيّة الطّاعة وفيها النّجاة استبداد بالرّأي وبعد عن المشورة والنّصيحة.. وتملُّك الإنسان بدافع الحبّ، مع سلبه إرادة القرار في الأكل والشرب والنّوم والدّراسة والعمل، كل ذلك استبداد بالرّأي وبعد عن الشورى والتناصح والحريّة.. ونُكرانُ الآخر بهدر الموارد والإساءة إلى البيئة وتلويث الجو والبحر والبرّ وحتى أسماع النّاس، كل ذلك استبداد بالرأي وبعد عن الحضارة وإنسانية..
لا داعي للحديث عن استبداد الحكام وكلٌّ منّا مستبدّ على نفسه وابنه وزوجته وجاره وأخيه.. فذاك استبداد فرد ينتهي بموته، أما الآخر فهو استبداد جماعة يتجدّد ما دامت على ظهر الأرض!

عندما يدمى رأس حامل العلم..

تأسّفت أسفا شديدا وأنا أرى طبيبا حاملا لأشرف العلوم يدمى رأسه من ضرب العصا، ويُجَابَهُ بفرق التدخّل والبحث والتحرّي وكأنه مجرم صعلوك وهو لا يملك سلاحا إلا سمّاعة يتفحّص بها المرضى وقلما يكتب به الدّواء لهذا المريض..
إنّه زمن الصعاليك، حيث يُتَّقى شرّ اللّئيم ويُدارى، وتُنتهك حرمة الطّبيب والطّالب والأستاذ.. ولنكون منصفين، لا يحق لأحد ولو كان شرطيّا أن يعتدي على أحد مهما كان مستواه، أكان طبيبا أم طالبا أم بطّالا.. ولكن، عندما تهان كرامة الأستاذ والطالب والطبيب وترى الأوباش من أصحاب السّوابق واللّواحق معزَّزين مدَلَّلين، فإنّنا نسير عكس عقارب الزمن ونتقهقر إلى عصر الظلمات..
لست أدري من ألوم على هذا.. هل الشّرطي الذي يلوّح بالعصا؟ أم الطّبيب الذي أهان نفسه فترك بعضه بعضا، البعض يحتجّ والبعض الآخر يصمّ أذنه؟ أم المتفرج الذي يحقد على الطبيب والأستاذ والطالب ويقول "يستاهل!".