لكل شيء إذا ما تم نقصان

ككلّ عام.. تفيض الدّموع ويتملّكنا الحنين ونحن نودّع شهر الله العظيم.. نودّع سكينة الرّوح وطمانينة القلب.. نودّع عبادة اللّيل وشعيرة النّهار..
كم مضى علينا من رمضان.. وكم قدّر الله لنا أن نمضي من رمضان آخر.. ونسأل أنفسنا.. هل تقبل الله منّا؟ أم سيكون رمضان حجّة علينا؟
يمضي مع رمضان صيامنا وقيامنا.. وصبرنا وجوعنا وعطشنا..
يمضي رمضاننا ويبقى استضعافنا في أرضنا، وهواننا على النّاس..
يمضي رمضاننا ويبقى صوت العلماء في سجون الطّغاة، وأنين الأطفال تحت أنقاض البنايات، وصرخات المرابطات على أبواب الأقصى..
يمضي رمضاننا ويبقى فينا نفس الذّلة والخنوع والمسكنة التي استقبلناه بها.. همّنا بطوننا وقبلتنا نساؤنا.. ودعاؤنا الله غالب!
ثمّ نتساءل.. هل تقبّل الله منّا؟

موسيقى رمضان

يرتبط رمضان في زماننا برنّات ونغمات وموسيقى خاصّة.. وهو أمر وإن كنت لا أحبّه لأنّه يخرج برمضان من شهر لله وشهر للإخلاص وللعبادة إلى شهر للطّرب والنّشوة الدّنيوية الزّائفة الزّائلة..
لكنّ ما شدّ انتباهي أكثر من ذلك وأبعد.. هو عجز الخطاب الدّيني عن مواجهة طغيان الموسيقى في كلّ مناحي الحياة.. حتى تغلغلت في قلب عباداتنا وشعائرنا.. فصار لرمضان رنّة.. وللعيد رنّة.. وللحج رنّة.. وللمولد رنّة.. بل وجعلنا للصّلاة أيضا رنّة..!؟
وممّا زادني قلقا وتيها.. أنّي أصبحت أرى أتباعا لدعاةِ كانوا بالأمس يحرّمون كلّ أنواع الموسيقى بمناسبة وبغير مناسبة ويرونها فجورا وفسقا وإن كانت مديحا في عرس..!! أراهم اليوم يتابعون مسلسلات فيها خمر وعشق.. وتغنّ بأغاني الرّاي.. ورقص وتمايل..
لست أدري أيّ سحر لآلات الطّرب مكّنها من غزو قلوبنا وعقولنا وكلّ معيشتنا.. حتّى صرنا لا نتصوّر لحظات من السّكون والهدوء والسّكوت.. وإن قدّر الله وكانت، رحنا نُدَندِنُ بأفواهنا وألسنتنا حتى نكسر حاجز الصّمت..
وكأنّنا لانريد أن تخلوا أي لحظة من عمرنا من الموسيقى.. حتى ولو كانت تصويريّة بحتة ؟!

القوارض

لقد وصف مفكّرنا مالك بن نبي رحمه الله عمّال المكاتب والشّبابيك الذين يتنطّعون ويتفنّنون في إذلال المواطن أمام الآلة الإدارية لعرقلة المشاريع والمعاملا ت العاديّة منها والمعقّدة.. وصفهم بالقوارض..!
والحقيقة أنّ أزمتنا السّياسيّة والإجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتربويّة وغيرها.. هي أزمة قوارض..
الأزمة ليست في المدير الفلاني أو المسؤول العلّاني أو القائد التّلاني.. فلو أتيت بأعبد أهل الأرض ووضعته في مسؤولية ما في إدارة ما في بلدنا الحبيب.. فإنّه سينقلب طاغية وووحشا.. لا لطبيعته فحسب.. بل لأنّه سيجد تحته قوارض يعبدونه بما شاء وكيف شاء..
فلو أراد الصّلاة، فإنّ عبيده سيفرشون السّجادة ويتوضّؤون ويقيمون الصّلاة.. ولو أراد السّكر لفرشوا له الطّاولة مزّة وخمرا وسجائر وملفوفا.. ولو أراد العراك لرفعوا السّيوف والخناجر أمامه وبين يديه.. ولو أراد الخطابة لكتبوا القصائد والرّسائل ونسبوها إليه..
العبودية لم تكن يوما ممارسة أو قانونا أو فرضا.. العبودية طبيعة جُبلت عليها أقوام أذلّوا أنفسهم فأذلّهم الله.. فكانوا جنودا لغير الله..
وهؤلاء لا يستقيم بهم حال.. ولا تتغيّر بهم بلاد أو عباد..

عشائيّات للفجريّات

مع انفضاض موائد الإفطار.. يبدأ ليل رمضان التي يمتدّ إلى الفجر.. فيه صياح الصّبية في الشوارع ولعبهم وجريهم ولهوهم.. وفيه أصوات التّجار والباعة بملابس العيد والأواني والفّخار.. وفيه أصوات الشّباب على المقاهي وفي الأزقّة وعلى قارعة الطّرقات..
فيه المسلسلات الرّمضانية العارية الكاسية.. وفيه الجلسات البيتيّة الشّامية والزّلابيّة.. وفيه الخيم الرّمضانية والشيشة التّفّاحيّة والقرنفليّة..
فيه أضواء لا تنطفئ إلّا بعد الفجر.. وفيه ضوضاء لا تهدأ إلا عند الصّبح.. وفيه جري وعدو وركض بين أكل وشرب ودخان وشَّمَّة..
فيه برامج ثقافيّة وترفيهيّة.. فيه مسرح ومسرحيّات.. فيه قاعة وغناء وسَهَرَات..
سهريّات رمضان مبدؤها بعد المغرب ومنتهاها بعد الفجر.. في ليال من خير ليالي العام.. ولها من العبادة والصّلاة النّذر اليسير.. صلاة التّراويح.. وحبّذا لو كانت بحزب واحد بدل الحزبين.. لأنّنا متعبون ونحتاج للنّوم في هذا اللّيل القصير لكي نستطيع الذّهاب لأعمالنا غدا فنؤدّيها على أكمل وجه.. لأنّ العمل عبادة..!؟
التّراويح متعبة وشاقّة.. لكنّ السّهر مع الضّيوف أو كالضّيوف لساعات اللّيل المتأخّرة ليس متعبا.. والجلوس على المقاهي على أنغام الرّاي والشّعبي والحوزي ليس متعبا.. والمشي على شاطئ البحر وقرمشة المكسّرات ليس متعبا.. نسأل الله الهداية..

مغربيّات

ومع اقتراب المغرب.. تجتمع الأفواه والأرانب على موائد سترها الله بستره.. بين مائدة رُصَّت بالملايين.. ومائدة تكاد لا ترى فيها أثر أكل إلا النّذر اليسير..
تخلوا الشّوارع مرّة أخرى، لكن هذه المرّة.. في وضع الاستعداد.. فالدّكاكين أبوابها نصف مفتوحة.. والمقاهي كراسيها مرصُوصة.. وحتّى الحلاّقات والحلّاقين أضواء صالوناتهم مشعولة.. في انتظار الهجمة الثّانية والهَبَّة العِشَائيّة المباركة..
عند المغرب.. النّاس جياع.. منهم من لا يعرف الجوع إلّا في هذه اللّحظات.. ومنهم من لا يحسّ بالمساواة إلاّ في هذه اللّحظات..
وبمجرّد رفع صوت الأذان.. تتسابق الأيدي والأرجل على صنوف الأكل.. وما هي إلاّ لحظات يسيرة.. حتّى تمتلئ البطن بما كتب لها الله.. وتُرفع الموائد.. إمّا إلى الثّلاجات عند أولي العقل.. أو إلى المزابل عند ناقصي الدّين والعقل..
لحظات المغرب نفيسة وقليلة.. وأجرها عند الله عظيم.. لمن استغفر وذكر الله ودعاه محتسبا الإجابة والإصابة..
لكنّنا جعلناها لحظات ترقّب وانتظار.. ومعاكسة لصور الطّعام وألوانه وروائحه.. وتتمّة لشجارات اليوم بين الابن وأبيه والبنت وأبيها والأخت وأخيها وأختها..
تضيع منّا المغربيّات بين عنجهيّة العصريّات ولهو السّهريات.. إلاّ من رحم ربي..

عصريّات

مع رفع أذان العصر.. تبلغ القلوب الحناجر.. وتزداد في الدّماء والعروق نسبة الأدرنالين والتيستوستيرون وكروموزوم البوكيمون.. وترى النّاس وقد علا صوتها وتحرّكت أيديها وأرجلها في كلّ الاتّجاهات..
فالعدّ التّنازلي بدأ.. والجوع قد أخذ من النّاس كلّ مأخذ.. والنّاس بين هبوط في السّكر.. وهبوط في الدّم.. وهبوط في الأخلاق..
فهذا قد استثقل الانتظار وأراد التّعدي على دور الآخرين.. وهذا قد نَرفَزَه البائع أو الشّاري.. وهذا قد أغضبه صياح الأطفال أو الكبار..
وكلّ قد علم سُبَابَه وشَتمَه.. تبدأ بكلام قاسٍ.. ثم بعبارة جارحة.. ثم بسبّ الأمّ أو الأب.. وسبّ الدّين والذّات الإلهيّة بالمناسبة.. لتنطلق بصقة من هنا وصفعة من هناك.. وتنتهي بمعركة وربّما سلّت السّيوف والخناجر..
تشير الدّراسات غير الموثوقة إلى أنّ مرحلة ما بعد العصر في رمضان، هي أخطر الأزمنة على المتجوّلين في الأسواق.. وتعدّ أخطر بعشر مرّات من زمن القصف الألماني لبريطانيا في الحرب العالميّة الثّانية..
عندها تبدأ رحلة الّنجاة والبحث عن المخرج.. مع اقتراب المغرب شيئا فشيئا..

ظهريّات

مع زوال شمس أيّام رمضان عن كبد السّماء.. تبدأ الحياة في الانبعاث من رماد الأسِرَّة وأفرشة الغرف.. ويجد البائعون مفاتيح دكاكينهم.. وتبدأ المَقَالي بمُعانَقَة الزّيوت الحامية على الزّلابيّة وأصابع القاضي.. وتبدأ صيحات التّجار وصرخات الأطفال في كسر حاجز الصمت!..
عندها ترى النّاس وقد بُعثوا من جديد.. وتسمع بمرورك على البيوت، أصوات المسلسلات وحصص الطّبخ المنسلّة من قنوات الإعلام الرّمضانيّ الذّائع الصّيت..
عندها ترى العائدين من أعمالهم وقد نشطوا وجرت الدّماء في أعماقهم للمعركة الحاسمة والملحمة اليوميّة.. صراع البيع والشراء.. واختيار البطّيخ والدَّلَّاع.. وانتظار الدّور عند بائع الشّاميّة.. وحراسة الجيب من مَرَدَة الإنس أولي الأيد الطّوال.. 
أمّا النّساء العائدات من أعمالهنّ.. فشغلهنّ أكبر وهَمُّهُنَّ أعظم.. فهنّ في صراع فلسفي وفكري جليل.. بين حتميّة الحَرِيرَة وتَرَف الشُّورَبَة.. بين فوائد الطّاجين الحْلُو وحلاوة الزّيتون والدّجاج.. بين شغف العجين وأريحيّة المطلوع والخبز السّوري..
هنا يبدأ البناء الحضاري ليوم رمضان.. وتبدأ ملامحه في التّجلّي.. لتتجسّد فيما بعد على مائدة يُؤكل بعضها ويُرمى جُلّها.. إلاّ من رحم ربي!

صباحيّات

في رمضان.. يمرّ في اليوم الواحد أزمان ودهور.. تحسبها لعصور وحقب مختلفة.. فالزّائر لنا في الصّباح، ثم المعاود في المساء يحسب البلد بلدان.. والزّمان أزمنة..
في صباح أيّام رمضان.. هدوء وسكون.. طمأنينة وسلام.. حتى يخيّل إليك أن النّاس أموات لا رقود.. وحتّى العاملون يتوجّهون لأعمالهم في صمت رهيب.. آثار النّوم عليهم بادية.. كلامهم قليل لا يكفي إلاّ لإلقاء تحيّة أو ردّ أخرى..
الدّكاكين مغلقة.. والشوارع خالية.. والسّيارات تمرّ مرّ السّحاب في غير جلبة.. فهي إمّا لساهر عائد أنهكه السّهر محتاج لظهر سرير!.. أو عامل يجدّ السّير لكي لا يُكتب من المخلّفين..
أمّا الدّيار فهي ديار أهل الكهف.. الفايسبوك في راحة.. والتّلفاز في البَرَّاد.. والأضواء في حالة استرجاع..
هو حال صباح رمضان.. صباح النّوم والكسل.. بعد ليل متعب.. وسهر مضن..

تحدّيات

عندما كنّا صغارا.. أردنا أن نملك العوالم كلها.. عوالم الحلوى.. وعوالم اللّعب.. وعوالم الأكل.. وعوالم الرّسوم المتحرّكة.. كانت تحدّيات عظيمة..
ومع التّقدم في العمر.. أردنا أن نكبر لكي لا يتحكّم فينا الكبار.. أردنا أن نملك مصروفا.. وأن نشتري ما نشاء.. أن ننام متى نشاء.. ونستيقظ متى نشاء..
ثم تقلّص التّحدي عندنا لأن نفوز في هذه اللّعبة أو تلك.. وأن نفوز في هته المباراة أو تلك.. وأن تنظر إلينا جارتنا.. وأن نحظى بابتسامة من بنت حيّنا..
ثمّ أضحى التّحدي الأكبر عندنا أن ندرس وننجح ونتخرّج.. ثمّ أن نعمل.. ثمّ أن نرتاح بعد أن نعمل.. ثمّ أن نجمع المال من هذا العمل..
ثم صار التّحدي أن نتزوّج.. ثم ننجب.. ثم نربّي..
ثم أمسى تحدّينا ألاّ نفقد أحدا من أحبابنا.. أن نحيط بهم أمنا.. أن نؤمّن لهم أكلا وشربا ومأوى..
في خضمّ كلّ هذه التّحديات مررنا مرور الكرام أمام أحداث جليلة وذكريات نفيسة.. مررنا أمام ابتسامة الأمّ عند أوّل درس.. أمام حضن الأب عند أوّل فرحة.. أمام حسرة الأمّ عند أول زعفة.. أمام قهرة الأب عند أول نِسيَة.. أمام تَقَوُّسِ ظهر الأمّ.. أمام تثاقل خطوة الأب.. أمام خُفوت صوت الأمّ.. وأمام زيادة صمت الأب..
هي تحدّيات نخوضها في هذه الدّنيا.. وتحدّيات نسقط فيها.. فلنا الله في هته وفي تلك..

فرق بينهم..

إذا أردت أن تبدأ أي مشروع في حياتك.. في أسرتك أو حيِّك أو عملك أو مدينتك أو بلدك.. في المعاملات أو في سبيل الخير أو في التّطوع أو في الدّراسة أو في السّياسة.. فعليك أن تدرك أنّ ممّن تبعك أصناف..
فالصّنف الأول، وهو قليل، سيتبعك لأنّه مؤمن بما تقوم به، ومستعدّ للذّهاب معك بعيدا في مشروعك.. فهذا الصّنف حاذر أن تنشغل عنه، وأشركه في أمرك وخذ برأيه.. فمصيركم واحد..
والصّنف الثّاني، وهو أقلّ، سيتبعك لشخصك محبّة أو إعجابا أو مجاملة.. فهذا الصّنف يستحقّ منك الاهتمام والحذر.. لأن لا تتغيّر صورتك عنده فتقع من قلبه فتفقده..
والصّنف الثالث وهو المتآمر الذي سيخذلك في صورة النّصح والدّعم والمشورة.. فهذا الصّنف استعذ منه وابحث عنه.. والوقت كفيل بكشفه..
والصّنف الرّابع وهو المستغلّ، وهو الذي سيسير معك لمصلحة عنده.. فهذا الصّنف استغلّه بقدر استغلاله لك.. وانتظر رحيله متى تحقّقت مصلحته..
والصنف الخامس وهو الأخطر.. سيسير معك لا لهدف ولا لمصلحة ولا لتآمر.. إنّما مغامرة وتجربة جديدة.. فمتى ملَّ من العمل معك.. انفضّ عنك.. وهذا الصّنف أشد الناس عليك فاحذره.. لأنّ الحماسة التي يبديها لك في بادئ الأمر غَرُورٌ.. وانتكاسته عنك عند الخواتيم فيها المقتل والهلاك..

زمن الضياع..

كثيرا ما اعتقدتّ أن القرن التّاسع عشر هو زمن الضّياع.. أين استُبيحت الأمّة الإسلامية من الاحتلال الغاشم.. وتقطّعت بين علماء الدّنيا وعلماء السّلطان.. وصارت الحكومات سفارات لدول الاستبداد العالمي.. وتفسّخت خيوط المجتمع بين أصاليّين غارقين في الجهل بالدّنيا متّكلين على ميراث مخلوط بين الرّث والسّمين، وبين حداثيّين همّهم الوحيد تعرية المرأة وقصّ الشّوارب والّلحى..
واعتقدت أيضا أنّنا في زمن تكشّفت فيه الغمامات والظّلمات.. وصار الحقّ جليّا واضحا.. وأنّه ليس أمامنا إلاّ بدء العمل والتّوجه نحو القصد المعروف والمشاهد..
لكنّي لازلت أُصدم يوما بعد يوم.. بأنّنا لا زلنا في عصر الضّياع للقرن الثّالث على التّوالي.. لا زلنا نعتبر أن الصّلاة طقس وممارسة، مثلها مثل اليوغا والتّأمل.. لا زلنا نعتقد أنّ الغرب تقدّم لأنّه شرب الخمر وأباح الزّنا، لا لأنّه درس وتعلّم وفكّر.. لا زلنا نومن أنّ أغلى ما في المرأة سيقانها، وإذا أخفتهم ماتت! لا عقلها وعاطفتها وعفّتها وأنوثتها.. لا زلنا نعتقد أن القّشّابيّة والعباءة والعمامة تحجب الهواء عن العقل، وليس التّعصب والإقصاء والوصاية على العقول والشّعوب..
نحن نعيش دائما في عصر الضّياع.. وكأنّ قروننا الوسطى لم يكتب لها أن تنجلي بعد..

فيها أو أخفيها.. نلعب ولا نحرّم!

في إحدى المؤسّسات.. تقدّم أحد الإطارات بمشروع.. ولأنّه إطار شاب.. انبرى له العمالقة من المؤسّسة يتصيّدون له الهفوات والمخالفات التّقنيّة والشّكليّة لإبطال المشروع.. ولكن؟ لماذا لم يقم هؤلاء العمالقة بهذا المشروع؟.. الجواب بسيط.. لأنّ لهم مشاريع أخرى غير مكتملة.. والقانون لا يسمح بالشّروع في مشاريع جديدة دون الانتهاء من القديمة..
إذن.. هؤلاء الدّيناصورات.. لا يمكنهم افتتاح مشاريح جديدة.. وفي نفس الوقت.. لا يسمحون للشّباب بتقديمها لأنّ المشروع.. مهما كان.. لا بد أن يكون تحت قيادتهم.. فالقيادة والتّحكم والسّيطرة حكر عليهم.. عملوا أم لم يعملوا.. أنتجوا أم لم ينتجوا..
هذا حال المؤسسة.. والحديث قياس..

المسابقة

يتبارى النّاس إلى ختم القرآن في رمضان تلاوة وسماعا.. وأرى النّاس وهم يعدّون الختمات في هذا الشّهر الكريم الذي هو شهر القرآن..
ومع هذا أرى النّاس سكارى في رمضان.. يتناوشون ويتنازعون.. وتصل الحَكَّاتُ أحيانا إلى المساجد والمصلّيات.. وتجتمع الحلقات أمام المساجد للغيبة وذكر النّاس وأحوالهم وشؤونهم؟؟ أما في الأسواق والشوارع فحدث ولا حرج، لعن وسبّ وغشّ وما يهوى الشيطان من عمل!
كلّ هذا وعدد ختمات القرآن في المجتمع يفوق عدد أفراده.. لماذا يا ترى؟
أهو راجع لختمنا القرآن حرفا دون فهم أو فقه، فلا نستطيع تطبيق تعاليمه وأوامره؟ ألأنّنا نحسن قراءة الصّورة ولا نحسن فهم المعنى؟ ألأنّنا حوّلنا القرآن لمسابقة في الختم وسرعة التّكرار ونسينا أنّنا مطالبون باتّباع القرآن قبل حفظه والله قد تكفّل بحفظه من فوق سبع سماوات؟ أم لأنّنا صرنا ننظر لهذا الكتاب الكريم على أنّه أساطير الأوّلين نردّدها للبركة، أما حياتنا فلها منهاج آخر وقوانين أخرى؟

اللحية.. والعلم؟

في أحد برامج المسابقات المرتبط وقته بشهر رمضان.. سأل المذيع أحد المشاركين سؤالا دينيّا، وكان الضّيف ملتحيا.. فقال المذيع.. وأنا أراك لك هيئة المُطَّلِع على الأمور الدّينيّة!! لأنه ملتح فهو متديّن.. ومطّلع على العلوم..
اللّحية سنّة لمن أخذ بهذا الرّأي.. والقميص كذلك.. لكنّ التّصور النّمطي بأنّ الملتزم ظاهرا هو فقيه وعالم بالدّين هو الذي جعل المذيع يعلّق بذاك الكلام.. وإن كان كلام المذيع عفويّا ليس له أبعاد عمليّة، فإن هذا التّصور غالب في مجتمعنا وأدّى بنا إلى عواقب وخيمة..
فهذا التّصور هو الّذي جعل النّاس تصطفّ وراء جهّال يفتونهم ويسيّرونهم ويحلّلون لهم ويحرّمون.. لأنّهم مُلتَحُون مُتَقَمِّصُون مُتَشَمِّغُون.. في حين أنّهم يعرضون عن علماء أكفّاء أتقياء.. لأنّهم لا لحية لهم ولا عباءة ولا شماغ..
الدّين مظهر ينبغي أن ينتشر.. لكنّه قبل ذلك علم مقرّه العقل والفؤاد.. تشهد له السّيرة والخلق والعمل.. وآخر ما يشهد له قشّابيّة وإزار..
اللّهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا به..

ماذا تعبدون؟

رمضان فرصة لنتصالح مع أنفسنا ونجدّد نيّاتنا، وخاصّة نيّاتنا في العبادة.. فنحن نقول بألسنتنا جميعا أنّنا نعبد الله.. وأنّنا نراقب الله في أعمالنا وسلوكاتنا وأقوالنا وأفعالنا..
ما نراه ونسمعه هذا الأيّام من الملتزمين.. ويستوي في ذلك العالم والعامّيّ.. أنّ عبادة الله في البلاد والعباد تحولت إلى عبادة البلاد والعباد في الله!!!
فكان الأولى بربّ الأسرة أن يعبد الله في زوجته وأولاده.. فيُقَوِّمَهُم ويدعوهم ويحسن إليهم ويصاحبهم ويشاورهم بالمعروف والحق.ّ. لكنّه يعبدهم في الله بأن يعصي ربّه بطاعة زوجته في أمّه.. ويعصي ربّه بطاعة ابنته في عُريها.. ويعصي ربّه بالإنفاق على فجور ولده.. وهو في كلّ هذا وذاك يدّعي طاعة ربّه في الإحسان إلى ولده وزوجته؟!
وكان الأولى بربّة الأسرة أن تعبد ربّها في زوجها.. فتعينه على الصّلاة والطّاعة والكسب الحلال.. لكنّها تعبده في الله بأن تعصي ربّها وتترك فرضها وتكشف عورتها.. وهي في هذا تدّعي طاعة زوجها في ربّها؟!
وكان الأولى بالعالم أن يعبد ربّه في وليّ أمره وفي رعيّته.. بالإفتاء بما يرضي الله فيه وفيهم.. رضوا أم سخطوا.. لكنّه عبدهم في الله.. فهو إمّا يفتي للجماهير بما يرضيها ولو لوى أعناق الآيات.. وإمّا يفتي للحكّام بما يرضيها ولو دقّ أعناق نفس الآيات.. وهو في كلّ هذا يدّعي عبادة الله وطاعته..؟!
إنّنا نعبد المخلوق في الخالق.. وكان الأولى أن نعبد الخالق في المخلوق.. فاللّهمّ أجرنا من أن نعبد سواك.

ابتسم.. من أجل الصورة

رمضان شهر الخير والبركات.. وشهر فعل الخير والصّدقات وجبر خاطر الفقير واليتيم والمسكين.. وليس شهر التّشهير بهم وتصويرهم ونشر صورهم في الفايسبوك وعلى اليوتيوب وعلى قنوات التّلفزيون.. مهما كان عملك رائعا وطيبا وسخيّا.. فتنهيدة واحدة من يتيم حياءًا وقهراً وخجلًا تنسف كل ذلك وتُحيله منكرا.. ونظرة انكسار واحدة من عين صبيّة أو فؤاد أمّ لم تستطع صون كرامة أبنائها أو أب عجز عن توفير لقمة العيش لمن يعول تجعل الخير والمعروف الذي تبديه شرّا وخنجرا تطعن به كرامة النّاس وإنسانيّتهم..
اتّقوا الله يا عباد الله..
الله لا يحتاج لصورتك ليثبت لك أجرك أو ليثيبك على فعلك فهو يعلم السّر وأخفى..
إن كنت تصدّقت لله.. فالله أمرك بإخفاء الصّدقة وصون كرامة أخيك.. وإن كنت تصدّقت للنّاس، فاحفظ مالك لأنّك تبذله ثم يكون عليك وبالا..
حفظ الله كرامتك عن السّؤال والفقر والحاجة.. فلا تمتهن كرامة أخيك!! فتبتلى بشرّ من ذلك.. عافاك الله وهداك للخير..

الإعلام الرمضاني.. الجزء الثاني

لقد كان رمضان فيما مضى.. شهرا يتبارى في الإعلام على تقديم مسلسل عن السيرة أو عن عَلَم من أعلام الأمّة.. وكنّا نرى فيه دروس التّفسير والوعظ.. وبرنامجا واحدا أو اثنين عن الطّبخ بالخضروات والدّجاج إن وُجد!.. أمّا اليوم.. فعجب عجاب ما تراه عيناك.. وإذا كنّا قد تكلّمنا عن أصحاب الرأي الموافق.. فهناك رأي آخر..
وهناك من يقول أن هذا الشّهر إنّما هو شهر العبادة، فكان لابدّ من المحافظة فيه على الوقت للطّاعات والاستكثار منها، بدل تضييعه على المسلسلات والفوازير وكثير من التّفاهات، وإن كان ولا بدّ، فلابدّ من تذكير النّاس بفضائل الشّهر وتأطيرهم لتصحيح صيامهم وحثّهم على الصبر والتّحلي بالحلم في شهر يكثر فيه الخصام والغضب والجدال.. ولا بأس من تقديم أعمال كانت فيما مضى قرينة الشّهر الفضيل من تواريخ الأمم وأخبار الصّالحين وسير العلماء ممّا يثبت في أذهان النّاس الأصول الحقّة للأمّة وتاريخها وأعلامها.. وللأسف، نجد الإعلام عندما يريد أن يجامل أصحاب هذا القول، يسرف في أعمال تاريخيّة تشوه الأعلام بدل أن تعرض لسيرتهم، وتنفّر النّاس من ماضيها بدل أن تعرضه عليها بأمانة، وحتّى البرامج الدينية، أصبحت تروّج لمن يدافع عن إسرائيل بكلمة حقّ يراد بها باطل؟ والله المستعان..

الإعلام الرمضاني.. الجزء الأوّل

مع هلال رمضان من كلّ عام، يتجدّد الجدل حول المسلسلات والكاميرات الخفيّة والخيم الرّمضانيّة وبرامج الطّبخ وكلّ الإعلام الرّمضاني، وإن كانت البرامج الدّينية خارج الجدل غالبا لمناسبتها لهذا الشّهر الفضيل..
والإعلام في وطننا العربي والإسلامي عموما، وكباقي الإعلام العالمي، أصبح يضبط شبكته السّنوية على المناسبات، وأهمّ هذه المناسبات شهر رمضان.. ومن هنا يتجدّد الجدل حول موافقة ذلك لروحانية هذا الشّهر بين قولين..
فهناك من يدافع عن ذلك بأنّ هذا الشّهر يكاد يكون الشّهر الوحيد الذي تجتمع في الأسرة حول الأكل وحول التّلفزة، فكانت الفرصة لتقديم البرامج والتّنافس فيها لتحقيق أعلى نسب المشاهدة.. ولكنّ هذا القول يقابله أنّ هذه الحقيقة لم تعد قائمة في ظل الهواتف الذّكية النّاقلة للغباء، فبمجرّد انتهاء الفطور وربّما قبل انتهاءه، يسارع كلّ واحد منّا إلى محموله أو إلى جوّاله تاركين التّلفزة للعجائز إلّا بعد منتصف اللّيل قبيل النّوم.. ويقابله أيضا أن البرامج المعروضة في رمضان لم تعد عائليّة البتّة، بل عبارة عن شتائم وسباب في الكاميرا الخفيّة، وعري وقبلات في المسلسلات، وأطباق بالجمبري والكيوي لشعب يعيش أغلبه في فقر وعوز.. والله غالب على أمره..

الديكتاتورية

من منّا لا يكره الدّكتاتور؟ ذلك الأحمق الذي يحكم بهواه ويقتل كلّ من عداه.. ذلك الفكر الأوحد والعقل الأرعن.. وكلّنا ننادي بالدّيمقراطية وحكم الأغلبية وتعدّد الآراء وتقبّل الآخر..
فنحن نخرج بالملايين من أجل المطالبة بالتّغيير والإصلاح.. من أجل الحرّية.. ومن لم يخرج فهو عميل مأجور.. وخائن للقضيّة ومتآمر.. وعدوّ للشّعب والجمهور.. انتظر! فأنا لست مع الدّيكتاتور، وأنا مع الحرّية ومع احترام الرّأي الآخر!! فلماذا لا تخرج معنا؟... لي أسبابي، ولا أخرج معكم لأنّي لست معكم!.. فأنت معه إذًا، أنت مع الدّيكتاتور!.. لا! لست معه، أنا مع الذين لم يخرجوا!.. أنت لست معنا، إذًا أنت معه..
لحظة! لقد سمعت هذا من قبل.. فقد كان الدّكتاتور يقول.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. ولا صوت يعلو فوق صوت الإصلاح.. ولا صوت يعلو فوق صوت الوطن.. إذا لم تكن مع الزّعيم فأنت ضدّ الوطن!!
كلّ ما تريدونه منّا إذاً هو استبدال دكتاتور بآخر أو طاغية بأخرى.. ولو كانت الجماهير!!! فالعقل الأوحد طاغية ودكتاتور ولو كان عقل الأغلبية.. والرّأي الأوحد مفسدة ولو كان رأي الأكثريّة..
الرّأي الغالب يؤخذ به ولكنّه لا يصادر الآراء الأخرى.. وإلّا صار نمرودا ولو كان رأي الجماهير..

الكذّابون

كلّنا نكره الكذب.. ونكره الكذّابين.. لكنّنا نكذب أحيانا.. نكذب لكي نتلافى مواقف محرجة.. نكذب لكي نخفي أشياء عن أعين وآذان الطّفيليّين والطّفيليّات.. نكذب لأنّنا نستحيي بأشياء لا نريد أن يعرفها أحد.. نكذب ونستحيي أن يعرف الآخرون أنّنا نكذب.. لأنّنا نعرف أن الكذب نقيصة ومثلمة في أخلاقنا..
ولكنّ عصرنا الحاضر أنتج لنا كذّابين من نوع خاصّ.. كذّابون يتبجّحون بالكذب ويتفاخرون به كأنّه رفعة ووقار.. فهم يكذبون علينا.. ويعلمون أنّهم يكذبون علينا.. ويقصدون ذلك.. ويعلمون أنّنا نعلم أنّهم يكذبون علينا.. والعجيب أنّنا نستمع إليهم ونحن نعلم أنّهم يكذبون.. وإذا انكشفوا بالحقائق والوثائق والصّور والأفلام.. اعترفوا أنّهم كانوا يكذبون.. ثمّ يكذبون مجدّدا.. وعلى اعترافهم وحقيقة أمرهم وعشقهم الكذب.. لا يستطيع لسانهم أن ينطق الصّدق حتى عند اعترافهم فلا يقولون إنّهم كذّابون!!! والعجب العجاب في الأمر.. أنّه وبعد تعوّدنا عليهم.. أصبحنا نستمع إليهم ونصدّقهم.. مع علمنا أنّهم كذّابين؟؟
قد تعتقدون أنّي أقصد السّياسيّين هنا.. كلّا وحاشا! فالسّياسي لا يكذب، إنّما يمارس السّياسة.. بل أقصد شيوخ دين الزّور وعلماء السّلطان وأشباه المفكّرين ومنتسبي الجامعات وأدعياء الطب وغيرهم من جلابيب العلم وقلنسوات الفكر..
إنهم الكذّابون.. فاحذروهم.. وابتعدوا عنهم.. فإنّ لهم سحرا أشدّ من سحر الفراعنة الأقدمين..

طاجين الحلو

طاجين الحْلُو من أهمّ الأطباق المرتبطة برمضان في الجزائر.. فالجزائر في أوّل أيّام رمضان هي عبارة عن ملايين من طواجين الحلو وأطنان من البرقوق والمشمش والمكسّرات..
فأنت تجد أمّهاتنا وأخواتنا وبناتنا منهمكات أوّل أيّام رمضان بتحضير هذا الطّبق، ومعه ألوان أخرى طبعا.. ناهيك عن تقدير الحْرِيرَة وحشو البوراك والمعقودة وتحضير السلطات الورقية والمقدونيّة وغيرها.. وربّما امتدّ نطاق العمليّات إلى العجن.. وزد على ذلك تحضير العصائر.. ويتوّج كلّ ذلك بطاجين الحلو تيمّننا بهذا الشّهر الحلو الميمون عندنا وعند المسلمين أجمعين..
في خضمّ هذا الهرج والمرج.. نجد بعض النّساء وقد دخلن المطبخ قبيل الظّهر لا يغادرنه إلا قبيل المغرب بقليل منهكات.. وإذا سألنا عن أصل فرضيّة الصّوم.. عن العبادة.. كانت الصّاعقة.. العمل عبادة.. وإفراح الأهل عبادة.. والقيام على العيال عبادة.. لكن؟ أين الصّلاة من كل هذا؟.. الصّلاة بعد الإفطار وغسل المواعين وتقديم الشاميّة والزّلابية وثلاث حلقات من مسلسلات وأربع كاميرات خفيّة وفيلم.. أو قل غدا صباحا!!.. فالصّلاة في أوائل رمضان بالدّين، وفي باقي الشّهر فلا دين..
رمضان أصله عبادة.. وأداؤه بزيادة العبادة.. أمّا إن كان سببا للتّفريط في المفروض منها، فليس هو رمضان شهر الله..
طاجين الحلو نحبّه جميعا في رمضان، لكنّه لن يغني عنّا شيئا إذا كان رمضان أصلا غير حلو البتة..

الرزق الخفي

تحدّثت مع أحد أصدقائي الأطبّاء وقد ابتلي بأمراض مزمنة في والديه جعلته يتردّد كلّ أسبوع على هذا الطّبيب أو ذاك من مختلف الاختصاصات.. هذا الطّبيب يأخذ وقتا طويلا مع كلّ مريض يستقبله، ويطلب من كلّ المرضى فحوصات مكمّلة من تحاليل دم وصور أشعّة وفحوصات نفسيّة، ممّا جعله يكتشف في بعض الحالات عِلَلًا خفيّة للأمراض جعلته ذائع الصّيت ومحبوبا عند المرضى..
سألته عن سبب هذا الاستثمار الرّهيب والتّقصي اللّحوح لحالات المرضى، فأخبرني أنّ مرض والِدَيهِ جعله يختبر أنواعا من الأطبّاء لا ينظرون إلا عند أقدامهم، يقدّمون الوصفات للأعراض الظّاهرة ويغفلون عن الأسباب الخفيّة والعلل الّتي يمكن أن تكون كامنة وراء المرض ممّا قد يؤخّر البرء أو يؤدّي إلى وصف أدوية لا تليق.. ولولا أنّه طبيب، يبحث ويناقش الأطبّاء في كلّ مرّة، لوقعت الكوارث..
أخبرني أن تجربته مع والديه جعلته يخاف أن يكرّر ذلك مع المرضى الآخرين، ويخاف أنّه إذا أهمل التّقصّي الجيّد لمريضه أن يذوق من ذلك في والديه.. فصار يعالج كلّ مريض كأنّه أحد والديه..
وصارحني بجملة عجيبة.. لقد أنعم الله علي بأمراض والديّ لكي أقوم بعملي على الوجه الّذي يرضاه..
أدركت عندئذ أن الله قد رزقنا أرزاقا وأخفاها عنّا.. فهي رزق خفيّ.. في ظاهرها ابتلاء ونقص.. وفي مكنونها نعمة وسبب لأداء الواجبات وتجنب الوقوع في المحظورات..
فالحمد لله على كل حال.

الأيام الخوالي

إنّ أشدّ العواطف على النّفس البشريّة الحنين بأنواعه.. فالحنين مدعوم بثقل الماضي وخيالات الأوطان وأطياف الأحباب.. وهو شبح لا يمكن الخلاص منه.. وهو مرسول النّفس العميقة للوعي الحاضر للمحاسبة!!
فبحنينك تخطّ صحيفتك وتزن أعمالك.. فمن كان حنينه في رمضان إلى الفوازير والمسلسلات والسّهرات والخيم الرّمضانية، يتحسّر على ما مضى منها ويذرف الدّموع عليها.. فليعلم أن ما مرّ عليه من رمضانات كان لها.. وليجدّد النّية وليتَعَرَّف من جديد على رمضان فهو لم يعرفه من قبل!
ومن كان حنينه إلى روائح المطلوع وحلاوة البقلاوة والشاميّة والزّلابية وصباع القاضي.. فليعلم أن حنينه إنما هو إلى الشّهر الغلط.. فرمضانه لم يكن أبدا شهر الله الفضيل المبارك..
ومن كان حنينه إلى خشوع زائف صنعته الأضواء الخافتة الشّاعريّة والمؤثّرات الصوتيّة والصّدى والبرودة المكيّفات والرّخام المزخرف.. فليعلم أن حقيقة الخشوع نور يقذفه الله في قلب العبد ولو كان يصلّي على الحصى والعرق يُلجِمُه عن النّظر والسمع..
ومع هذا.. فالحنين إلى كلّ هذا أقوى من أن نتحكّم فيه فلا يأتينا.. وأن يبقى في مقام الخواطر والوساوس فذلك حال الإنسان ومقام الفطرة الّتي فطرنا الله عليها.. لكنّ المحظور، وما ينبغي أن يترك، هو أن نجعل ذلك على ألسنتنا وفي قلوبنا وأن نجعل من رمضان شهر لذلك ونحاول أن نجترّ ونعيد للشّهر ما ليس منه وما ليس فيه..

لذة المعصية

لذّة المعصية هي أكبر وهم يعيش فيه العصاة، فهي وإن كانت تسمّى لذّة فهي لا تملك من معناها شيئا يذكر.. فهي عابرة قصيرة قاصرة ولا تكاد تُذكر حتّى من العاصي نفسه!
إنّ للمعصية سحر وحسرة وندامة وعقاب، ليس للّذة فيها مكان.. فالعاصي يهيج ويشتاق للمعصية لأنّ لها سحرا وبريقا.. حنينا لما أتى أو رغبة فيما يأتي.. ثم يحسّ بالحسرة على ما فرّط وما ضيّع من وقت فيها.. ثم يندم أشدّ النّدم عندما يتذّكر أو يُذَكَّرُ أو يلقى الله.. ثمّ يذوق العذاب إذا لم يرجع ويتب.. فما محلّ لحظات المعصية في كلّ ذلك؟؟؟
أما أبصرت الطّفل الصغير يقفز ويَتَنَطَّطُ أمام لعبة رآها عند ابن عمّه أو في التّلفاز أو في واجهة المحلّ.. ويبكي الأيّام حتّى تشتريها له.. ثمّ بعد لحظات يرمي بها وقد حطّمها ويستقبل ألعابه الأخرى القديمة أو يبكي على أخرى جديدة.. فحالك مع المعصية كهذا الطّفل.. لذّتك بهته كفَرَحِهِ بتلك.. لحظات بلحظات.. وماذا يبقى.. لعبة مكسورة ونفس مثلومة.. وماذا كان قبلها.. بكاء وصراع وأخذ وردّ..
فالعبرة ليست بالمعصية.. العبرة بقوّتك على مقاومة سحرها ودفع حسرتها وندامتها.. فأدرك الحقيقة كاملةً وشكل الصورة واضحةً.. ماذا تساوي تلك اللحظات..

سحر المعصية

للمعصية سحر يَلُفُّ النّفس ويَجذِبُها إليها، فهو كالسّوط تُسَلِّطُه المعصية على العبد تَلُفُّ به رَقَبته وتَشُدُّه إليها شدّا شديدا لا يستطيع معه الفِكَاك.. هذا السّحر هو الرّسول الخفيّ للمعصية والمقدّمة لها، قد يكون في المعصية ذاتها، وقد يكون عندها أو بقربها، وقد يكون في قلبك ونفسك أنت..
فالخاطر الذي يجول في فكرك ليذكّرك برنّة وَتَرٍ، أو بنسمة عطر، أو بجديلة شعر، أو برعشة أو بخفقة أو بنشوة، كل هذا من سحر المعصية التي يلقيه الشّيطان في قلبك فتَتَلَقَّفُهُ النّفس وتجترُّه مرار وتكرار حتى يملك فؤادك ويُغَيِّبَ عنك عقلك فتهوي في المعصية وتغرق في لذّتها.. ثم لا تستفيق إلّا وقد ذهب السّحر ومعه غشاوة القلب وبقيت الحسرة والنّدامة..
والنّظرة الأولى أيضا من سحر المعصية، كذلك الحنين إلى صوت أو إلى وجه أو إلى لمسة، كل هذا من سحر المعصية..
الرّخام والخشب الزّان والأواني الفاخرة والسيارات الفارهة هي أيضا من سحر المعصية..
كلّ لذّة أو شهوة أو عجب يقذفه الشّيطان في نفسك أو تهفو هي إليه هو من سحر المعصية.. فإمّا أن تمسك وتقلع، أو تبحث في الحلال ما يطفئ جمرة هذه النّشوة، أو تهوي في النّار وأنت غافل سكران لن يوقظك إلا النّدم أو الموت..

أكل وشرب.. وبما يرضي الله

رمضان شهر الصّوم، أي شهر الامتناع عن الأكل والشّرب، فهو شهر الإمساك، وشهر الصّبر..
في حيِّنا سوق كبير للّحوم والدّواجن والخضراوات والفواكه.. اليوم وككلّ عام عند اقتراب الشّهر الفضيل، تصطف السّيارات وتمتلئ عن آخرها بأنصاف الخراف والخراف الكاملة، والطّيور الحيّة والمذبوحة والمُرَيَّشة، والخضراوات الطّازجة والفواكه الموسمية والمجفّفة في مشهد من مشاهد الهلاك الكبير أوالمجاعة الكبرى..
وفي المنازل أصناف من المأكولات لم تعرفها طول العام! ووَحَمٌ عامٌّ للذّكور والإناث، وتنافس شَرِسٌ بين الشَّارِي والطَّاِبخ والآكل أيُّهُمُ يَفجُرُ أكثر..!؟
أصبح الشّهر الفضيل شهر الأكل بامتياز.. فصيام ساعات نقابله بأكل أيّام وشهور، من مسكّرات ومملّحات ومخلّلات.. عدا عن العجائن واللّدائن والطّواجن..
لقد قرأنا الكتاب بالمقلوب، وكأنّنا نقرأ الرّسالة من على ظهر الورقة..

رمضان المحاسبة

من فضائل الشّهر الكريم، أنّه -لمن أراد- يُوَفِّرُ جوّا من السّكينة والهدوء النّفسي، فالأكل مرّتان بدل ثلاث أو أربع، والعبادة مرغوبة من النّفس لذاتها ولاجتماع النّاس عليها، والمعاصي ممنوعة نسبيّا إلا للمُصِرِّ المُلِحِّ إصرار..
من هنا كانت الفرصة مواتية لجعل هذا الشّهر شهر المحاسبة، فكما جعل الله ثواب الشّهر عظيما، وبشّر من قام بحقّه بالمغفرة الشّاملة التّامة، وجب علينا أن نُهيِّئ أسباب هذا القبول بالمحاسبة..
فصفاء النّفس وإقبالها على العبادة وإدبارها عن المعاصي يُورِثُ حدّة في البصيرة ودقّة في النّظر والحكم وجب استغلالها في مراقبة النّفس وفحصها وتقييم الأعمال وتقويمها بدل التّوجه إلى الآخرين أشخاصا وأفعالا..
ليكن موعدك مع رمضان فَحصًا لأسباب الخير والشّر في نفسك، لتأخذ بهذه وتترك تلك.. وتَتَبُّعًا لمسالك الفضيلة والرّذيلة حولك، لتسير في هذه وتجتنب تلك.. وتَقَصٍّ لمواطن الضّعف والقوّة في هِمَّتِك، لتُحَصِّنَ الثُّغُور وتُزَيِّنَ المآمن..
إنّ المحاسبة الجادّة القويمة والسّليمة للنّفس في هذا الشّهر تبعث على الاستغفار الحقيق بالإجابة، وتُحفِّزُ على العمل الذي ما فتئ ينفصل عن الإيمان..

الشمة تحت الزربية ؟!

في صلاة الجمعة، أخبرنا الإمام أن الزّرابي الجديدة النّاعمة البرّاقة التي تفوح منها رائحة المسك قد تبرّع بها مُحسن لوجه الله تعالى.. والتَمَسَ مِنَّا أن نُحافظ عليها، ونَعتَنِي بنظافتها لكي تدوم ويدوم صَلَاحُها.. وطلب منّا أن نَتَجَّنَّبَ جَلبَ وشُربَ الحليب في رمضان، ومن شاء أن يُفطر في المسجد، فليُفطر على تَمَرات ويَضَع النَّوى في جيبه حتّى لا يُوَسِّخَ بيت الله.. لأنّهم.. وعندما أزالوا الزّرابي القديمة.. قد وجدوا عجبا..
لقد وجدوا نوى التّمر تحت الزّرابي.. المُسلم يصوم طاعة لله، ويصلّي المغرب في جماعة في بيت من بيوت الله.. ويُفطِر على تَمر اتّباعا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثمّ يُخّبِّي النّواة تحت زربيّة بيت الله !!!
لقد وجدوا أغلفة السّكاكر والحلوى.. ليغزو النّمل بيت الله ويَسرَحَ على رقاب المصلّين.. 
لقد وجدوا أظافر مُقَلَّمة تحت الزّرابي.. فالمسلم يأتي إلى بيت الله غير مكتمل الطّهارة والنّظافة، ليُكمِل ما بقي من نَظَافَته فيما يجب أن يكون أطهر مكان في الحيّ.. فيُقَلِّمُ أظافره ويضعها تحت الزّرابي..
إلى هنا والأمر صار للأسف مألوفا.. ولكن اسمع إلى ما هو آت.. لقد وجدوا الشَّمَّةَ تحت زرابيّ المسجد.. المُسلم يأتي إلى المسجد وهو واضع للشَّمَّةِ (والشّمّة لمن لا يعرفها، نوع من التّبغ تُوضَعُ في الفم، حتّى إذا ذهبت لذّتها وصارت عَفَنًا ونَجَسًا، أُلقِي بها ووُضِعَت غيرُها).. يأتي واضعا للشّمّة ثمّ يضعُها عندما يريد الصّلاة تحت الزّربية..
هذا هو مسلم القرن الواحد والعشرين.. مسلم الحضارة والفكر والفلسفة.. مسلم الحرية والرشاد والتطور.. لو كان الأمر معزولا لقلنا إن الأمر عادي.. والبشر فيهم وفيهم.. أمّا أن تمتلئ أكياس القمامة من مخابئ الزّرابي في المساجد.. فهذا لعمري ناقوس الخطر ودليل التّخلف.. والجواب على كلّ من سأل: لماذا لم يَتْنَحَّاوْ قاع؟ لأنَّنَا لازم نَتْنَقَّاوْ قاع!!

الأبيض والأسود

قد اختلف معك في حكمنا على شيء أو شخص ما.. فتراه سيّئا وأراه حسنا، أو العكس.. وهذا ما يحدث دائما.. فحريّة الرّأي من بين الحرّيات المكفولة عرفا وعقلا ودينا.. لكنّنا، وللأسف، غالبا ما نحكم على الأشياء والأشخاص بثنائيّة غريبة تجعل من عالمنا إمّا أبيضا وإمّا أسودا.. لا مكان فيه للتدرّجات الرّمادية، ناهيك عن الألوان الأخرى!؟..
وينسحب حكمنا على كلّ شيء انطلاقا من أحكام سابقة أخرى، فأنا لا أحبّ زيدا، فهو أسود! وزيد يحبّ المعكرونة والرّياضة والأفلام العنيفة، فالمعكرونة والرّياضة والأفلام العنيفة سوداء أيضا.. وإذا رأيته يوما مع عمرو فعمرو أسود أيضا.. وإذا نما إلى علمي أن زيدا يشجع المولوديّة فالمولوديّة سوداء أيضا؟!.. وهكذا نجد أنفسنا في عالم أسود به بعض البقع البيضاء التي لا اتّصال بينها وبين السّواد الذي نعرفه..
الأشياء والأشخاص في دنيانا مزيج من الشّر والخير، والصّلاح والفساد، والحبّ والكره، يطغى جانب على جانب، ويظهر جانب دون جانب أحيانا.. لكنّ الحكم المطلق حكم جائر في كلّ الأحوال.. ومردّه إلى الله وحده.. أما نحن، فقد نحبّ خلقا ونكره آخر في نفس الشّخص، ونحبّ خصلة ونكره أخرى في نفس الشّيء، ومتى أقصينا الكلّ، خسرنا الكثير بخسارة صلاحه وخيره ولو كان قليلا..
أمّا انسحاب الأحكام على أشياء أخرى بالعلاقة والتّعدّي فهو الجهل والسفه بعينه.. ولا مجال للتعليق عليه..
إذا تعلّمنا كيف نأخذ الصّلاح ونترك الفساد من نفس السّلّة، فستظهر الألوان بالتدريج في حياتنا لنكتشف بمرور الوقت أنّنا قد شفينا ممّا سنسمّيه فيما بعد.. عمى الألوان!