عام جديد 2018

عندما نبلغ مرحلة عمرية معينة، تتشابه لدينا الأيام والسنون، ويصبح رأس السنة وذيلها سواء.. وتصير رؤوس السنين كلها كبعضها، نفس الرسائل والتمنيات من نفس الأشخاص بنفس التعليقات ونفس الردود.. قد يكون مَرَدُّ ذلك إلى تعوّد النفس على الجديد والقديم فلا القديم صار مفاجئا ولا القديم قابلا للتكرار.. فقط القديم صار مدعاة للحنين والشجن..
تتوالى ملخصات الرياضة والسياسة والفن على القنوات.. فقدنا أناسا وتعرفنا على آخرين.. تحطمت أحلام وابتكرنا أُخَر.. وبقي من رأس السنة اليوم المدفوع الأجر الذي لا نستيقظ فيه باكرا.. وللعاطلين أصلا.. لا فرق؟!
صارت الأعوام عندنا عبث وتكرار.. نُعِدُّ الحصيلة ولا يقرؤها أحد، نستعدّ للعام المقبل وهو المستقبل بتذكر العام الفارط وهو الماضي.. نهنئ أنفسنا على عام لا ندري أكان مزيدا لنا في الخير أم نقصانا.. صار رأس السنة تَجَمُّعاً لنا في مسيرة الزمن ننتشي فيه بعمر ينقص ونضحك من أنفسنا ثم يمضي كل منا إلى حال سبيله..
كل عام وأنتم بخير.. 

الدعاء..

حدثنا أحد شيوخنا عليه من الله البركات والدعوات الصالحات أن أفضل الدعاء ما كان بنية خالصة وظن صالح بالله مهما كانت صيغته ومهما كانت لغته.. ولقد أخبرنا الصادق الذي لاينطق عن الهوى أن من الدّعاء الذي يجمع خيريّ الدنيا والآخرة طلب العفو والمعافاة في الدنيا والآخرة.. وأن أفضل الفضل من الله على عبده أن يغفر له..
ويتبارى إلى ذهني تهافت الناس على تحميل أدعية كرنَّات ونغمات، وطلب أدعية الشّيخ فلان والشّيخ علان.. وحبذا لو كان الدعاء مع خلفية صوتية وصدى ومُخَشِّعات أخرى كصوت الخرير أو الصرير.. ويا حبذا لو كان في رمضان، أين نطلب المساجد التي يُحسن أئمّتها الدّعاء! وإحسانهم طبعا هو البكاء والنواح ولو كنا لا نفهم من دعائهم شيئا أهو خير أم شرّ..!
وبلغت وقاحتنا على الدعاء الذي هو مخّ العبادة وصلة العبد بربه بلا واسطة أن صار دعاؤنا بالمغفرة والعافية لا يكفينا، وصرنا نستصغره ونستهين به وهو صلاحنا إن كان صادقا بعيدا عن أعين الناس.. وصرنا نطلب مجالس الدّعاء بصيغ جميلة بعيدة ولوكانت بمعان غير سويّة لكنّها بصوت شجيّ وصدى رنّان.. وكأنّ الله لا يسمع الدّعاء إلا من هؤلاء.. مع ما فيه من الرّياء والسمعة وهي ممحقة للأجر والإجابة..
كل عام وأنتم بخير.

عن مدينة بوسعادة.. ناصر الدين ديني

لا يمكنك زيارة مدينة بوسعادة أو الحديث عنها دون ذكر الرسام الفذ الذي أقام فيها وترك باريس إليها.. فهو الشاهد على أن هذه الواحة المتواضعة على باب الصحراء الجزائرية قد أغرت بجمالها رساما وُلد وعاش في عاصمة الفن باريس صاحبة المتاحف واللوحات النادرة.. لكنه فضل عنها واحة أقام فيها وأوصى أن يدفن فيها وقد دفن فيها، بعد أن اعتنق لغتها ودينها وجمالها..
إنه ناصر الدين ديني، وإن كنا ممن يتفقون مع مذهبه في الفن أو نختلف، وإن كنا ممن يوافقون على رسوماته أو نختلف.. فإننا ولا شك، نقر بأنه علم من أعلام الجزائر وإن لم يولد فيها.. لكنه عانق لغتها ودينها وأحب أرضها وأوصى أن يدفن فيها بعد أن عاش بين أهلها معبرا عنهم لا مغتصبا لأرضهم أو محتقرا لثقافتهم.. بل ساهم في نشر ثقافتهم وتخليد حياتهم برسوماته ولوحاته خاصة ما كان منها بعد إسلامه..
لقد ارتبط ناصر الدين ديني بالمنطقة وأعيانها، وله إلى اليوم لوحة رسمها للشيخ محمد بن أبي القاسم الحسني مؤسس الزاوية الشهيرة في ضاحية بوسعادة.. وله لوحات تقَصَّت كل مناحي الحياة الجزائرية من صلاة وتحر للهلال وغسل ولهو ورواح للكُتَّاب ورعي..
بيته الذي تحول إلى متحف لا زال يحتفظ برونق وسكينة خاصة تنقلك للقرن التاسع عشر حيث بوسعادة واحة هادئة خلابة، والناس بين فنان ومحب للفن وطالب علم ومحب لطالب العلم ومجاهد وداعم للجهاد..

الدورات التدريبية..(1)

مع دخول البرمجة اللغوية العصبية وعلوم الإدارة والتدريب والإلقاء والمهارات والتنمية البشرية إلى عالمنا العربي، تحولت مجتمعاتنا إلى ساحة لكل أنواع بيع الهواء والهراء باسم التكوين والتدريب وتعلم اللغات في أسبوع وحفظ القرآن في يومين ومراجعة الدروس في ساعتين وكل ما يسيل لعاب الكسالى ويُخرج أموالهم..
لقد تخلى شبابنا عن الدراسة الحقيقية وطلب العلم الحقيقي مع كل ما يقتضيه من الجد والسهر وتنقيح المعلومات وطلب الصحيح من أهل الاختصاص ونقد المراجع وتحقيق النصوص.. تخلوا عن ذلك كله وتوجهوا للجهلاء يلخصون المعارف والعلوم في قصاصات وإشهارات حمالة أوجه بدعوى أنها أوجزت كل العلم وأحاطت به من كل وجوهه..
تخلوا عن العلم الصحيح والتكوين الشاق الذي يصنع الخبرة وينتج الممارسة السليمة القويمة واتجهوا نحو أشباه المعلمين الذين يعطونهم أشباه قواعد تخطئ وتصيب فأنتجوا ممارسة شَعوَذِية قوامها اللسان الخادع واللعب بالألفاظ لبيع الريح..
فصرنا نرى من تكوَّن يومين في ناد جمعوي يتصدر مجالس الإرشاد والتربية والتعليم لينصح أبناءنا، في حين نرى أساتذة كبارا أفنوا حياتهم في التعليم عطاءا وبذلا يُستهزأ بهم ولا حظّ لهم من العرفان إلا دنانير التقاعد العجاف..
وصار من تلقى دورة في أسماء الأعشاب والتوابل يتصدى لعلاج الأمراض والطبيب الخبير مُتهما بالجشع وجمع المال مع أننا نعطي العشاب أضعاف ما نعطي للطبيب..
كل عام وأنتم بخير.

عن مدينة بوسعادة (1)

سمعت كثيرا عن مدينة بوسعادة وكيف أنها بوابة الصحراء وأقرب الواحات إلى الساحل، وكيف أنها مدينة السعادة والراحة.. فقادني إليها القدر الأسبوع الماضي وزرتها ليومين لأتعرف عليها وعلى معالمها..
والحقيقة أنني شعرت بسحر ينبعث من الطبيعة مع اقترابي من بوسعادة عبر الأراضي السهبية مخترقا المناخ القاري المعانق للأطلس الصحراوي راسما لوحات طبيعية لم أعرفها ولم أتذوق حلاوتها قبل ذلك اليوم..
ومع حلولي على المدينة اكتشفت كيف نال منها ومن واديها العمران بطريقة بشعة غير مدروسة جعلها كباقي مدن الوطن هجينا بين أنماط مختلفة من العمران فلا هي حافظت على أصالتها ولا هي في حلة حديثة كاملة، فضُيِّعت الواحة ولم تُقم المدينة..
ورأيت فيها شبابا في عمر العطاء والإنتاج مقامهم المقاهي، ولياليهم السمر قليل منهم العامل أو الطالب أو الشغال كحال باقي مدن الوطن..
ورغم هذا وذاك، لازال في المدينة معالم للجمال تستحق أن يعرفها العالم، وأعلاما يشهدون للمدينة بأنها باب السعادة وبوابة جنة الأرض.. عاشوا فيها ودفنوا فيها..

تمثال عين الفوارة

سمعت أن مختلا قام بتشويه تمثال عين الفوارة في مدينة سطيف! منتهكا بذلك أعراف البشر باحترام الثقافة والفنون والتراث والحضارة والتاريخ..
ولقد تمكن المختل من بعض أطراف التمثال فنال من قدسيته وووقاره.. وقار كانت تصنعه عورة مكشوفة وعري مخزي مكشوف أمام الكبير والصغير والرجال والنساء!!
وعجبت كيف تم صرف ميزانية لترميم قدسية العورة ووقار العري في لحظات وربما قد تم الترميم قبل كتابة هذه السطور..
هذه الميزانية تتثاقل وتترهل آلياتها عندما يكون الموضوع إصلاح التدفئة في المدارس والجامعات، أو صرف مخلفات رواتب العمال والأجراء، أو سد حفر في الطرقات أو رفع النفايات والقاذورات.. عندها تصبح الإجراءات القانونية صعبة وطويلة ومعقدة.. ويتدخل الآمر بالصرف، ثم المراقب المالي، ثم المحاسب، ثم تتدخل حسابات البنود والميزانية حتى تفقد المشكلة ضرورتها وتصبح لاحدث..
أما لكشف عورة التمثال ورد الاعتبار لعريه.. فالأمر هنا يختلف!
عام سعيد وكل عام ونحن بخير..

القدس، الجرح المتجدد

ثارت ثائرتنا لأن أحدهم نقل سفارة بلاده من يافا إلى القدس، سفارة أقامها أسلافه لأنهم اعترفوا قبل عشرات السنين بكيان قائم بالقوة على أرض فلسطين من النهر إلى البحر. وهجنا وهاجت جوارحنا لأن بلادا كبيرة اعترفت لهذا الكيان بالقدس عاصمة له!
وبعد أيام من هذا الهيجان والثوران بدأت النفوس تهدأ ورجعنا إلى سباتنا ونومنا الذي أزعجه هذا التافه الذي لا يعرف قدرنا ولا زال لم يختبر صولاتنا وجولاتنا، ولا يعلم ما نقدر عليه إذا ما هجنا وثرنا!!!
لقد بلغ التهريج بنا مبلغ الوقاحة والدناءة والنذالة، وصار كذبنا على أنفسنا يستوجب البكاء دما لا دموعا..
أوليست هذه القدس التي احتلت عام 1418 (1917م) ومن يومها وهي في كنف الأعداء يحكمون رجالها ونساءها وصبيانها ويأذنون لمآذننا بالأذان أو يمنعونه متى شاؤوا؟
أوليست هذه القدس التي تكاد تُهدم جوامعها بالحفريات والتنقيبات والتفريعات ونعلم علم اليقين أن الخطوة التالية هي بناء هيكل مزعوم مكان تلك الجوامع؟
أوليست هذه القدس التي تُفتَّشُ حرائرها وتُنتهك  أعراضها على يد الأنجاس وتُداس بيوتها وتسجن فتياتها أو تُقتل على الأرصفة وفي الساحات؟
أوليست هذه القدس التي يجوع أهلها ويُحاصر مريضها ويُجهز على أسيرها؟
كيف نزعم أننا نحبها ونحن نثور لأن سفيرا غير بيته من يافا إلى القدس وقد كان دائما يدخل إليها ويخرج منها بدون إذن أو جواز كما يُطلب من أصحاب الأرض.. وكأن قضيتنا قد تعدت الأسيرات والسجينات والأرض والمسجد إلى مكتب السفير أين يكون؟؟
هذا السفير الذي تعلن بلده أنها مع الكيان الغاصب صراحة لا تلميحا.. وتموله وتنصره وتدافع عنه..
لكن كرامتنا التي تقبل منه كل هذا، وترضى للقدس بكل ذلك.. تأبى أن يكون مكتبه في القدس؟؟
فلنعد إلى نومنا فقد ملأنا الدنيا صراخا وشبعنا من العالم ضحكا واستهزاءا.

جنائزنا

تنقضي آجالنا في هذه الدنيا ونحن نلهث وراء السراب ونجري وراء أحلامنا حلما بعد آخر، وكلما قضينا حلما أدركناه وهما وبحثنا عن آخر حتى نحمل إلى المقابر..
وكل العجب العجاب أننا نشيع أحبابنا وأمواتنا إلى منازل الآخرة، ونحن نردد عبارات الموت والفناء ونذرف الدموع أحيانا، ثم ما نلبث أن ننسى أو نتناسى هذا العبور الإلزامي لكل نفس بشرية من الحياة الفانية القصيرة الدنيا إلى الحياة الأبدية الباقية الآخرة.
كيف لنا أن نقول العكس ونحن نتبادل السجائر والجنازة مسجاة ننظر إليها؟ وكيف نزعم المقابل ونحن نشيح وجهنا عن فلان وفلان والميت لم يدفن بعد؟ وكيف نزعم غير ذلك ونحن نذكر مثالب فلان ونعيب على فلان عدم حضوره وعلى فلان عدم اتصاله وكأننا في مقام المجاملة أكثر منه مقاما للعبرة والموعظة؟
إن هذه الدنيا لأقصر من أن نضيعها في هذا العبث وفي النواح على الأموات، فأحبابنا نودهم ما داموا أحياءا بين ظهرانينا، ونصلهم ونبرهم وهم يرون الوصال والبر، أما وقد رحلوا، فغير الدعاء والذكر الحسن لا ينفعنا ولا ينفعهم..
والدار الآخرة ملتقى الأحباب في الله.

المدرج الفارغ

تناولت مواقع التواصل الإجتماعي منشورا لأحد أساتذة التعليم العالي يشتكي فراغ المدرجات في بداية العام الدراسي إذ وجد نفسه أمام خمسة طلاب! والحقيقة أن جميع مدرجات الوطن فارغة في بداية العام، فالدراسة عندنا تنطلق رويدا رويدا رويدا.. وقد حدثني أحد الأساتذة أنه تردد لأسبوعين متتالين على القاعة وهي خاوية على عروشها، ليلقي أول درس بعد أسبوعين أمام طالبين فقط؟
والحقيقة أن المدرج الفارغ ما هو إلا رأس الجبل الجليدي، فالظاهرة ما هي إلا نتاج عقلية تضع العلم في ذيل القائمة بعد الإجازة الصيفية، والإجازة الخريفية، والراحة من الإجازة، ومباريات كرة القدم، وجلسات الشيشة، وكل شيء!
أعظم الله أجرنا في العلم والتعليم ومؤسساته.

العدالة الإجتماعية في العلم؟

حضرت خطبة الجمعة اليوم، وأعترف أنني لم أستمع منذ زمن إلى خطبة تمس المجتمع في الصميم، وتعالج أمرا من أمور الناس بعيدا عن تكرار الكلام السطحي الذي في مبناه رفيع ولكن لازمه في أذهان الناس مستهلك وخلِقٌ وبالي..
لقد حدثنا الخطيب عن التعليم في بلدنا وأثار جانبا نتناوله بخجل فيما بيننا، وإلقاؤه على الناس من على المنبر يحتاج إلى شجاعة وجرأة في الحق لم تنقص الخطيب بارك الله فيه، إنه جانب العدالة المشوهة في التعليم! العدالة التي أصبح الطلاب وأولياؤهم يطلبونها في غير محلها، فكيف ذلك؟
العدالة المحمودة في التعليم هي الحق في المعرفة، فلا ينبغي لنا أن نقصي من التعليم زيدا أو عمرا لسبب من الأسباب الشخصية، ولا أن نؤثر بالمعرفة أحدا دون أحد، وهذا مضمون ومكفول بالقانون والعرف.. أما العدالة المذمومة التي نعاني منها في أيامنا هته هي الحق في النجاح، والحق في الشهادة، وهي عدالة أوكست التعليم وميعت الشهادة وقضت على الكفاءة ورفعت الرداءة فوق مستوى الخبرات!
لقد صار الطالب ووليه يطالب بالنجاح والشهادة دون بذل الجهد ودون تقديم الجواب الصحيح ودون اجتياز الحد الأدنى من المعرفة الضرورية لأن هذا النجاح وهذه الشهادة -حسب رأيه- حق مكفول ولا ينبغي أن ينازعه فيها أحد ولو أدى ذلك إلى الإضراب وغلق الجامعات وشل الطرقات.. إنها العدالة الإجتماعية في التعليم.. فالحق في السكن والحق في الوظيفة والحق في الصحة تعدى بقدرة قادر إلى الحق في الشهادة والحق في النجاح!
فأي معنى بعد هذا للشهادة والكفاءة، وكيف نثق بعد اليوم في صناعة المهندس ودواء الصيدلي وووصفة الطيبب؟

إنها الأخلاق قبل العلم

سمعت أن الإمام مالك استحل طالبا له نهره وآذاه بتحديثه أربعين حديثا، ثم قال الطالب زد الضرب وزد الحديث! وسمعت أن محدثا كبيرا إماما ارتحل أربعة أشهر لتلقي حديث ثم عندما رأى الرجل الذي جاء يطلبه رجع عنه لأنه تفل على يساره؟!
وحدثني أحدهم عن أستاذ نحرير في بلدنا يزدري الطالب الذي لا يتقن الفرنسية ويبعده عنه كما يبعد الآفات! وطلاب يملؤون جوف مذكراتهم بالكذب والصدق لا يفرقون بينهما لأنهم لا يقرؤون ما يكتبون، فكيف حالهم مع ما يكتب غيرهم؟ وسمعت أن أستاذ علامة يختار من طلبته أبناء المسؤولين والأغنياء ليؤطرهم ويترك الباقي لمريديه و"أعداءه"!  وأعرف ممن يدعي العلم من اشتهر بكذبه وبهتانه..
أدركت كيف ساد أجدادنا وملكوا الدنيا وبقي علمهم، ولماذا محقت البركة من علومنا فلا تنفع ولا تجد لها وقعا أو أثرا..
إنها الأخلاق لا العلم.

قرآن للجن وللموتى

عجبا لحالنا مع القرآن! القرآن الذي أنزله الله على رسوله ليكون هدى للعالمين ودستور حياة ونورا للقلوب، فهو كتاب للأحياء ليحيوا به حياة طيبة، ويعمروا الأرض التي يورثها الله للصالحين من عباده. وهو كتاب حمل خطابا للمكلفين لإقامة شعائر الله وحد حدوده على عباده، وتنظيم شؤونهم في خصوصهم وعمومهم.
هذا الكتاب جعلناه نحن اليوم بجهلنا وتجهيلنا كتابا لكل شيء إلا للأحياء، جعلناه كتابا لطرد الجن وفك السحر ورفع المس، جعلناه كتابا يتلى على الموتى وفي المقابر، أما الأحياء فأصبحنا لا نرى فيه صلاحا لهم ولا رابطا له بهم؟!
ومما ابتلينا به في أيامنا أن صرنا نسمع عند بائع الكتب من ينصح أخاه أن يشتري مصحفا ليجعله في سيارته أو في منزله لأن حياته متعثرة وحظه عاثر.. فلابد أن به عينا أو سحرا! وصرنا نرى القراء يتصدرون المجالس في المآتم والمقابر ولا نتذكرهم إلا بهذا، حتى صرنا نسأل عند سماع القرآن: هل مات أحد؟
كان الأولى لمن تعثر حظه أن يفيد بما في القرآن ليصلح حاله دينا ودنيا، لا أن يضع رسمه في بيته وهو أبعد ما يكون عن معناه..
القرآن كتاب للحي قبل الميت، وخطاب للإنس والجن معا ليتدبروا معناه، وليتقوا الله قبل أن يأتينا اليقين.

لست نبيا ولا معصوما

كثيرا ما نرى في مجتمعنا متحجبات يتصرفن بوقاحة وخروج عن الأدب أحيانا، وملتحين يتفوهون بكلام بذيئ ويقومون بأفعال منافية للأخلاق، أو شيوخا يصدر منهم قول شائن أو فعل مذموم.. والحقيقة أن هذا ليس خاصا بمجتمعنا، بل هو ديدن كل المجتمعات، وخليقة كل البشر من زمن سيدنا آدم، إنه الإنسان الخطاء!
المشكلة لدينا أننا ننظر إلى الملتحي على أنه نبي مرسل، وإلى المحجبة على أنها مريم العذراء، وبالمخالفة ننظر إلى المتبرجة على أنها الخطائة الملعونة وإلى المتبرج على أنه شيطان الإنس؟ فمن أين لنا بهذا وكيف ينظر العقل السوي إلى الناس بما يلبسون؟
الحقيقة أن الملتزمة باللباس الشرعي أو الملتزم به اختارت أو اختار سلوكا في اللباس تراه أو يراه صائبا وفق عقيدة صحيحة، وهو محمود وله الحرية في ذلك، ولا ينبغي أن يتعدى بنا التحليل والتفلسف إلى أبعد من ذلك، فخلقه ومعدنه يترجمه عمله وقوله لا أقمشة مفصلة على جسده.
وليس لنا أن ننتظر منه أن يكون نبيا معصوما أو ملكا منزلا، كما لا ينبغي لنا أن نطالبه بخلع هندامه لأن سلوكا طائشا أو كلاما ما صدر منه!
علينا أن نرقى بعلاقاتنا فوق مستوى الأقمشة، ونخاطب العقول، ونطلب معدن الناس في أقوالهم وأفعالهم بمعاشرتهم، فالبصر بالعين  قاصر وليس بالميزان القويم.

رسالتك في الحياة

يتساءل الكثير منا عن رسالته في الحياة، ولماذا يحيى، وماذا يقدم في هذه الدنيا؟ وهو سؤال وجيه لكل من أدرك أننا لم نخلق عبثا، وأن الحياة ليست وليدة حظ أو خبط عشواء. وكل من لم يجل بخاطره هذا السؤال فهو غافل ينبغي أن ينتبه ويستيقظ من غفلته.
والجواب عن هذا التساؤل بسيط جدا ومعقد جدا في وقت واحد. فالسؤال ألف فيه الفلاسفة المؤلفات، وخاض فيه علماء الشريعة والأصول والتصوف. ونحن هنا بصدد الإشارة والاستئناس بكلام المحققين لإرشاد أنفسنا نحن العوام حتى لا نكون بحياتنا عابثين ولاهين.
والحقيقة أن الرسالة الأسمى لكل بني آدم في هذا الكون هو تحقيق العبودية لله بعمارة الأرض حق عمارتها بالعدل والإنصاف. وهذه رسالة عامة يشترك فيها كل البشر على اختلاف مشاربهم ومنابتهم. وتحقيقها يكون بتحقيق الرسالة الفردية التي تتفرع عنها تبعا للمنشأ والبيئة والإمكانات والوسائل والظروف المتاحة لكل واحد.
فهناك من رسالته قيادة الأمة في زمن من الأزمنة، وهناك من رسالته تجديد علم أو نشره أو تنقيحه، وهناك من رسالته إبداع بدعة حسنة فيها صلاح الناس وراحتهم وأمانهم، وهناك من رسالته تربية أولاد صالحين في مجتمع فاسد أو بيئة ظالمة، وهناك من رسالته حفظ كرامة والديه في كبرهم وعجزهم، وهناك من رسالته بر زوجته وحفظها وتهيئة الحياة الكريمة لها.
فالرسالة ليست بالحجم أو القوة أو السعة! إنما هي بالأداء والأمانة والتقوى، فما قيمة الرسالة العظيمة إذا ضيعناها فأفسدنا أمة أمام رسالة عائلية بسيطة تحفظ بها نفسا واحدة وتدخل بها السرور على قلب مؤمن؟ والجواب والتحقيق في كل هذا عند الله عز وجل، فنحن لدينا أمارات وإشارات، أما الجواب الشافي فهو عند الحساب.
فلنلزم ما ألزمنا الله به من رسالة، ولنؤدها حق أدائها، ولنتق الله فيما بين أيدينا من مسؤولية قبل أن نتطلع لمسؤوليات ربما هي خارج نطاقنا وليست موكلة لنا أصلا.

ترتيب اليوم والليلة

اليوم والليلة هما أصغر دورة في حياتك، وإذا رتبتهما ترتيبا جيدا، تمكنت من ترتيب جزء كبير من حياتك. ولترتيبهما يجب مراعاة الأولويات وإدراك المقدورات. ولإتمام ذلك علينا أن نتدرج كالتالي:
أولا، ضع الأساطين: والمقصود بالأساطين، المواعيد التي لا ينبغي تجاوزها، وما عداها يترتب بينها، وهذه الأساطين للمسلم هي الصلوات الخمس، فيومه يمتد من صلاة الصبح إلى صلاة العشاء، فما بينهما يوم كامل وما بعدهما ليلة كاملة.
ثانيا، قسم أعمالك على اليوم والليلة، فأعمالك الظاهرة لليوم، وأعمالك الباطنة لليلة.
 - فاليوم لنشاطك مع الناس، وأعمالك أمام الناس، وعلمك وعملك.
 - والليلة لأسرارك، سرك مع أهلك، وسرك مع نفسك، والأهم من هذا وذاك سرك مع ربك!
ثالثا، قسم أعمال اليوم الأهم فالأهم، وهنا تضع الوظيفة، الأكل، القيلولة، النشاط الاجتماعي، القراءة، السياحة، وكل أعمال اليوم، ونعلم أن اليوم قصير ومحدود، ولكن الأيام عديدة، فيوم للوظيفة والقراءة، ويوم للسياحة والقيلولة وهكذا.
رابعا، قسم أعمال اليل ليلة بليلة، ذلك أن النوم يأخذ معظم الليل، فيبقى النذر اليسير، اجعله ليلة لأهلك أو ساعة، وليلة لنفسك أو ساعة، وليلة لربك أو ساعة. 

العطلة

جلست أنتظر أحدهم وأنا أراقب الشارع المقابل والنهار قد انتصف، والشمس دنت بحَرِّها من العباد، وأناس يروحون ويغدون وقد نال منهم التعب والحر كل مأخذ!
وأول ما شد انتباهي تجرد بعض الناس من ملابسهم بشكل مقزز رجالا ونساءا، فالكل يوفر الحد الأدنى من الخدمات في اللباس، أقمصة مكشوفة الأكتاف والأذرع والسرة، تبابين إلى ما فوق الركبة وشحاطات لا تكاد تجمع الأقدام! ويستوي في ذلك الأطفال والكبار.. وحتى بعض الشيب.
والكل يجري وهو حامل علبا من الحلوى، أو البيتزا، أو السندويشات.. وكأني بهذا الصيف موسم للراحة حتى عن التجمل الاجتماعي واللباس المحتشم وطهي الطعام وإعداده في البيت..
تساءلت ولا زلت أتساءل عن الذي جعل لنا الصيف مرادفا لهذا كله؟ وكأننا في باقي فصول السنة عندما نعمل، ونعد الطعام في بيوتنا، ونرتدي لباسنا اللائق والمحتشم متكلفون وخارجون عن الفطرة، مع أنه لدينا عطل أسبوعية وعطل أخرى نسترجع فيها بعضا مما نستهلك من طاقاتنا ومجهودنا.. وكأن ذالك كله مُتَكلَّفٌ وخارج عن الفطرة، حتى إذا ما جاء الصيف، تحررنا من ذلك كله حتى من الحياء والحشمة.
أتساءل حقا هل كنا كذلك قديما؟ وهل الأصل حقا فينا ما نفعله في العطلة..

الشكل والمضمون (1)

الدنيا مزاوجة بين الشكل والمضمون، بين المظهر والمنكنون، بين المنطوق والمقصود، وبين المرئي والمستور. والطمأنينة والاستقرار والفلاح والنجاح لا يتأتون إلا إذا صدَّق الظاهرُ الباطنَ وتوافق المنطوق مع المقصدود وعبرت الواجهة عن المكنون. ومن أسوء ما ابتلي به الإنسان على مر العصور وتبدل الأحوال طغيان الظاهر عن الباطن، واهتمام الناس بالواجهة وتخليهم عن إصلاح الدواخل والبواطن.
إن الظاهر ينبغي أن يكون ترجمان الباطن، فكما أن الكلام باللسان هو ترجمة لما في القلب من أفكار، وكما أن اللباس مظهر لذوق الإنسان وحياءه وخُلقه، فكذلك الشكل نتيجة للمضمون في كل شيء لكل شخص سوي ومجتمع سليم وعمل متقن! لكن غالب الأحوال عكس ذلك.. فالمتتبع للكثير من أحوالنا يجد غير ذلك.
فبدل أن نشتغل بالمضمون ونترك الشكل لطبيعته يعبر عن المضمون المتقن فيكون ترجمانا صادقا وصورة وافية وفية.. اشتغلنا بالشكل دون المضمون فأخرجنا مضامين مشوهة عليلة ناقصة وأشكالا مزخرفة مبهرجة فنطازية تعبر عن الأحلام والأساطير وليس لها من المضمون إلا الوسم ورابط الاسم..

دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين

في هذه الرسالة لأستاذنا الكبير مالك بن نبي، والتي ضمنها محاضرتين ألقاهما في دمشق، يستعرض المسؤولية الملقاة على عاتق المسلم مع نهاية القرن العشرين.
والمؤلف إذ يعرض تهاوي منظومة القيم لدى الحضارة الغربية مع فقدان مبررات وجودها ورسالتها، يهيب بالمسلم أن يستلم مشعل الحضارة من جديد لينقذ نفسه من التخلف عن الركب، وينقذ الآخرين من المصير المحتوم الذي يسيرون إليه مع نفاذ المخزون الحضاري وفقدان قيم الرقي.
ومما أعجبني في هذه الورقات القليلة عددا والمتخمة بالأفكار والإرشادات، توصيفه لشروط أداء الدور المنشود حتى يتحقق الإصلاح. وفي ذلك يشبه المسلم بالماء الذي تنتظره الأرض العطشى ليرويها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان مستواه أعلى من مستوى هذه الأرض! فلن يتحقق الإصلاح من المسلم إذا لم يرفع مستواه فوق مستوى الآخر ليرفعه إليه، أما إذا رضي بالدون فلن يزيد العالم إلا جرا للأدنى..
والسؤال الذي يحيرني، ماذا بعد مرور أكثر من أربعين عاما على رسالة مؤلفنا.. هل رفع المسلم مستواه واستلم مشعل الحضارة وبدأ في إنقاذها من الإفلاس؟

بيع العملات بالتفاضل (من فقه النوازل)

الكتاب موضوع التدوينة كتاب فقه، وهو رسالة بسيطة فيها إجابات عن ثلاثة أسئلة لمحمد يحيى بن محمد المختار الوالاتي مع تحقيق الدكتور أحسن زقور من جامعة وهران. وموضوعها دقيق مفيد لأهل العلم وطلبة الفقه والأصول، ليس المقام هنا لعرضه أو مناقشته. وإنما أردت الكتابة عنه لاستعراض بعض الملابسات المتعلقة بالمؤلف والسياق.
المؤلف من علماء المغرب الإسلامي، صاحب مؤلفات عديدة لازالت حبيسة رفوف الزوايا تنتظر من يحققها ويخرجها للطلبة والباحثين، وهو شخصية فذة استوقفني ما نقله عنه المحقق حين قال: "إن ضوء النهار أعز من أن يستغل في غير قراءة الكتب". وهذا القول يطلعنا على حرص علماءنا على تحصيل المعرفة، وحياته اليومية كانت شاهدة على ذلك.
والشيخ الوالاتي ليس ببعيد عنا حتى نقول إنه من السلف أو من الزمن الأول وإنما عاش في القرن الماضي فقط.
ومما نقف عنده أيضا حرص هذا الطراز من العلماء على توثيق علومهم ونشرها، فكان هذا الكم الهائل من التراث الفقهي والمعرفي لدينا. وهو ما نراه غائبا عنا للأسف الشديد، فنجد طلابنا وعلماءنا بين محصل للعلم من أجل الدنيا بلا حظ من الإفادة والتبليغ والتوثيق، وهؤلاء الغالبية من أصحاب المعاشات والوظائف، وبين محصل للعلم ومتبحر فيه لكن حظه من التأليف والتوثيق ضعيف لتقاعس أو إهمال.

العام الجديد 2017

رأس السنة ومشية الغراب
أتذكر عندما كنا صغارا، أن العام الجديد كان ضمن عطلة الشتاء التي نقضيها في اللعب والتسكع وانتظار الناير ببلوطه وحلاوته ودراجيه وشرشمه! لم أكن أعرف حينها بيشا ولا نويلا ولا كريسمسا!
والبارحة وأنا استمع إلى الأخبار في بلدي.. هالني أن الكل يتكلم عن التحضير لرأس السنة، وكنت أحسب أن التحضير يقتصر على الحلوى وأشرطة التلفاز التي تعدد أحداث العام ومقالب الكواليس والمضحكات من التصوير والمونتاج.. أما أن يكون التحضير بنشر الشرطة والدرك لتأمين الاحتفال فهذا ما لم أكن أنتظره أبدا؟!
لقد كنت ألاحظ ذلك في بلاد الغرب عندما أمضيت هناك بعض السنوات لأنهم في رأس السنة يسكرون ويعربدون، فتقع الحوادث وتتطور الأمور إلى الشجارات والاعتداءات، فلابد من الشرطة والدرك للتحكم في السكارى والمنحرفين..
ولكن ماذا عن بلدي؟ البلد المسلم الذي يدين أهله بالإسلام ونتشدق فيه بالأخلاق والعفة والحشمة؟ تكلمت الصحافة على تكثيف الأمن عبر الطرقات، وعن المداهمات، وقالت إن رأس السنة يستدعى ذلك.. لكنها سكتت عن السبب؟؟ فلماذا السكوت عن السبب؟؟
أنجاهر بالاحتفال بعيد ما أنزل الله به من سلطان، ونجاهر بحجز الأماكن في الملاهي والمراقص، ونخجل من أن نعلن أن السكر والعربدة صارت من المباحات عندنا، ونحتاج فقط إلى تأطيرها لكي لا تتجاوز الحد؟!
الفرق بين الأخلاق والفساد بين واضح جلي، وهو عنوان الهوية والانتماء، أما أن نميز في الأخلاق بين ماهو صالح وطالح، وأن نختار من الفساد بين ما هو مقبول وغير مقبول، فهو التخبط والتكرفيس بعينه.. هو الاستهبال والاستحمار الذي ما بعده استحمار.