نمط الحياة

إذا قمنا بجولة بسيطة ليوم كامل في مدينة من مدننا، بل وحتى لو قمنا بجولة كل يوم لمدة عام كامل، فإننا لن نستطيع أن نحدد نمط عيش سكانها، وأتحدى أذكى عباقرة العصر أن يخطوا لنا جدول الحركة لأي فئة من فئات مجتمعها! أو أن يحدد دوامات المدارس والمصانع والإدارات والشركات، بل وحتى أوقات ذروة المقاهي والمطاعم.
فالتلاميذ عندنا يبدؤون دوامهم على الثامنة صباحا، وربما تجد تلاميذا متوجهين لمدارسهم بدءا من السادسة صباحا، وآخرين ينتظرون الالتحاق بمقاعدهم على العاشرة، وآخرون محرومون من الدوام الصباحي؟ والأدهى! أن هناك آخرون يلتحقون بأشباه ملاعب الأحياء -وهي عبارة عن شوارع وجادات مهيئة محليا لممارسة رياضات الشوارع- من الثامنة صباحا إلى ساعات المساء أيام الدراسة والإمتحانات! أما طلبة الجامعات فكأن أساتذة الجامعات يدرسونهم تحت الطلب، فتجوالهم في المقاهي وأركان العمارات، وللمحظوظين بعض فضاءات التسلية أكثر من أوقات جلوسهم في قاعات الدرس. ولضبط تصرفات الإداريين يلزم ما يلزم، فكلما اشتغل موظف فقضى لك حاجتك بعد أن تنتظره من دقيقة إلى ثمان ساعات غاب العديد دونه عملا بمناوبة لا يفقه أصولها إلا مجتمعنا الذكي أكثر من اللازم. وإذا غاب الرقيب في الإدارات الحكومية، فإن التجار وأصحاب المحال قد غنى كل منهم على ليلاه، فلكل منهم نظام فتح وإغلاق وبيع يتغير في اليوم مائة مرة، غير مبالين بالزبائن الصبورين جدا جدا! ولا حاجة لذكر المقاهي والمطاعم، فهي عامرة آناء الليل وأطراف النهار، وربما أغلقت كلها أبوابها أوقات يحتاجها الناس في أيام العطل والراحة والرحلات. هذا غيض من فيض، فكيف للمواطن البسيط أو المعقد أن يخطط ليومه أو حتى ساعته في ظل هذه الفوضى الحياتية العارمة، أو أن يحترم مواعيده مع الآخرين، أو أن يحدد مواعيد للآخرين أصلا!؟ ومما زاد الأمر بهاءا أن نتحدث عن الأنترنيت وعصر السرعة وتكنولوجيا المعلومات، كيف ونحن لم نحدد أصلا نمط حياة مدينتنا اليومي!

مراتب التهريج

المهرج شخصية أسطورية من المستوى الأول، فهو يجسد خبايا النفس البشرية من خوف وجهل وتخف وضعف وسوء نظر وقلة حيلة! فيجسد بالتالي النقيصة في العمل الإنساني من حيث كونه دائما بعيدا عن الكمال في أعين الآخرين. ونحن إذ يعجبنا التفرج عى المهرجين، ونتسلى بذلك ننسى أو نتناسى أن المهرج مرآة لسلوكاتنا اليومية في أغلبها إن لم يكن في كلها. ذلك أن سلوكاتنا صارت للأسف عروضا مضحكة مبكية في آن واحد! من تصرفاتنا اليومية في العائلة والمحيط والعمل، إلى قراراتنا الحياتية والمصيرية، مرورا باختياراتنا أمام مختلف امتحانات الحياة.
إذ كيف لمدرس أن يكرر الأخطاء اللغوية التي يلقنها للتلاميذ منذ عشرين سنة ونيف إلا إذا كان مهرجا؟ وكيف لرب الأسرة أن يتخذ قرارا بتزويج بنت أو تطليق امرأة وهو جليس مقهى ثم يلحس كلامه في الجلسة التالية إلا إذا كان مهرجا؟ وكيف لرئيس مؤسسة أن يطلق مشروعا بكلمة ويسخر فيه كل الطاقات لنفحة، ثم يبطل المشروع وربما بنفس النفحة إلا إذا كان مهرجا؟ والظاهر أن مظاهر التهريج وامتداده أكبر مما نتصور، وفوق كل الحدود! ولكن؟ هل التهريج الذي نمارسه مرده فعلا للنقص البشري، أم أنه نتاج الهزل والانهزام الذي نعيشه على كل الأصعدة؟ الواقع أثبت ويثبت أن هذا التهريج من خصائص أهل التخلف. ذلك أن الأمة التي تتعامل مع الجرائم التي ترتكب كل يوم في حق لغتها، وعلمها، وهويتها، وحضارتها على أنها نكت وطرائف تتندر بها الصفوة في مجالس السمر هي فعلا أمة الهرج والتهريج!

النجومية والشهرة (1)؟

كثيرا ما يبحث الشباب عن الشهرة، والنجومية، لذلك نجده دائم الحلم والبحث عن أسباب تحقق له الشهرة والنجومية عبر قنوات وأسباب أكثرها موجهة وممنهجة من جهات خفية بأجندات مدروسة ومدفوعة لأغراض غالبا ما تتعلق بمحاولات طمس الهوية وتحطيم دعائم الأمم. لذلك غالبا ما يتوجه الشباب إلى برامج تلفزيون الواقع من ستار أكاديمي، فسوبر ستار، ففاشن، مرورا بألحان وشباب، وانتهاءا بمسابقات الجمال والمواهب. هذه البرامج يُقدَم لها دائما على أنها ورشات ومدارس لصناعة النجوم، فهل تصنع هذه المحافل نجوما أصلا؟ الإشكال الرئيس يكمن في تعريف النجم! ما هو النجم؟ النجم جرم سماوي محترق! ومن احتراقه صار علما مُشاهدا لكل الناظرين، فشبه الناس به كل من ذاع صيته أو اشتهرت صورته حتى صار لايخفى في مجلس. فبذلك صار الفاتحون والعلماء والموسيقيون والأدباء نجوما في الزمن الماضي، وكذلك -وهذا ما يُروج له الإعلام الحديث للأسف- صار اللصوص والتجار الفاسدون وبائعات الهوى نجوما أيضا في وقتنا الحاضر! لا لشيء إلا لمقومات الاحتيال وإمكانات الجسد، وليتها مقومات وإمكانات حقيقية، بل برتوشات تغير كل الطبيعة أحيانا. فهل نحن بحاجة لأمثال هذه النجوم، أو بالأحرى هل شبابنا يحتاج لهذه النجومية لإثبات وجوده وتحقيقه، وراحته وشعوره بالإنجاز؟ وهل يحق لهؤلاء النجوم أن يفخروا ويفرحوا بشهرتهم؟ ويتباهوا بما وصلوا إليه إن كانوا قد وصلوا لشيء أصلا؟ كيف يمكن لملكة جمال أن ترتاح وقد صارت نجمة لا لشيء إلا لأنها تعرت أمام الملايين وقَيَّمَتها عصابة بطول ساقيها وحجم صدرها؟ كيف يمكن لخريج برنامج آخر أن يفخر بإنجازه وقد وصل إليه بكشف أسراره أمام الملايين، ليستعطف تصويتهم بتسريحة شعر أو ضحكة ماجنة، فيكون أداة ربح للمنتج وشركة الإتصالات وشركات الإعلان، ليتخرج بعدها فيشتغل أيضا بتسريحته وشكله بالإعلانات والدعاية؟ فأي مستقبل لهؤلاء بعد انفضاض المجلس وتفرق الجمع إلى "نجوم أخرى"، وبماذا يعرف هذا النجم حياته، وبماذا يصف إنجازه؟ ثم، وهذا الأهم، ما الذي حققه هذا النجم للآخرين، وما هو إسهامه في الحياة وإضافته ولو البسيطة الضئيلة للبشرية؟ اللهم إلا إلهاء الناس برهة ببهرجة عارضة، وسلبهم جزءا من أموالهم عن طريق الإتصالات واشتراكات التلفزيون، ثم التفريق بين الأزواج كالسحرة بسبب خلافات أتفه من أصحابها، فبالله عليكم ماذا بقي بعد كل هذا!

أزمتنا مع الماضي (1)

كثيرا ما نسمع من شيوخنا وأساتذتنا ومن يكبرنا سنا، ولو بسنوات نقدا كثيرا لسلوكاتنا وتصرفاتنا بسبب ومن غير سبب لدرجة تجعلنا نعتقد أننا لا نصلح لشيء. فلا يمكن أن نقترح اقتراحا مفيدا أو نتصرف تصرفا لائقا، أو نعمل عملا صالحا أبدا! وعلى الجهة المقابلة، ذهب الأوائل بالفضل الأول، وأتوا بما لايقدر عليه أحد، ولم يترك المتقدمون للمتأخرين شيئا! وهذا العالم لابد زائل بزوالهم، فعلى الدنيا السلام، والسلام عليكم ويرحمكم الله!
إن هذا لشيء عجاب، وإن ما نعانيه اليوم وتعانيه الأمة منذ قرون يعود قسط كبير منه إلى هذا الإحباط المزمن للأجيال من الأجيال السابقة لها! فإذا تقصينا جميع محطات النصر التي مرت بها الأمة الإسلامية عبر التاريخ، وجدنا صانعيها شبابا! بدءا من الوحي الإلهي على خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وكيف انبرى الشباب لعادات وأوثان الشيوخ، مرورا بالفتوح العسكرية كالأندلس والقسطسنطينية، فالفتوح الفكرية لأبي الحسن الأشعري وابن رشد وغيرهما، وصولا للحركات التجديدية لابن باديس وبن نبي وغيرهما، ثم الثورات التحريرية في الجزائر وغيرها.. وفي كل نجد أن الصلاح والتغيير الذي يحكم عليه التاريخ لاحقا كان دأب الشباب أو يتبعه ويحققه الشباب، فيما القوة المثبطة والمُحبطة فيه ذهنيات أشباه المشايخ ومُدَّعُو الحكمة والحقيقة المطلقة -دون تعميم طبعا-! وعلى عكس ذلك نجد فترات الركود والرقود هي السنوات التي تسيطر فيها قدسية التقليد والتقديس والتأليه أحيانا. فكلما سادت فكرة الشيخ والسيد والزعيم الأوحد والمفكر الملهم، دخلت الأمة مرحلة الاستكانة والرضى بالنوم والكسل، وتعطلت آلة الفكر والعمل، وأصبح الناس موظفين لدى المجتمع لا أفرادا منه! ولا تنقصنا الأمثلة على ذلك من بداية الحكم الأموي، مرورا بعصر الضعف -وليس هو عصر الضعف الوحيد في تاريخ أمتنا- وما جره من تتار وأتراك، وصولا لما نحن عليه اليوم. فإذا كانت هذه شهادة التاريخ، فكيف يحق لأي كان أن يحبط همم الشباب ويسفه أحلامهم، ويصفهم بالغوغائية والتهريج وعدم تحمل المسؤولية، ويصر على الوصاية عليهم وحرمانهم من أبسط صور الحرية في الفكر والعمل؟ أم أن وراء السلوك أفكار أخرى؟

بين المنزلتين

عندما نتحدث عن التغيير، تغيير أي وضع قائم، من أبسط الإدارات أو الجمعيات أو المؤسسات، إلى الدول والمؤسسات الكبرى.. يُطرح تساؤل مهم جدا، هو كيف يكون ذلك؟ أو أي الطريقين نسلك؟ هل نمارس دور المصلح من الداخل؟ أم نمارس دور المعارض الشرس الذي يرفض ويواصل الرفض ويدعو للرفض؟ الجواب قد يبدو بديهيا عند البعض ممن نسمع ونقرأ لهم، خاصة من ذوي النتظير الديبلوماسي الذين لا يغضبون أحدا! فالحل حسب نظرهم يكمن في تقدير المصلحة. فإن كانت الأمور متعفنة جدا، فالواجب عدم التورط، والمعارضة من بعيد، ليحسب ذلك بعد التغيير الجدري المنشود للمعارضين. أما إذا كانت الأمور وسط-وسط فالواجب القبول بأي منصب أو مكان داخل الركب لممارسة الإصلاح وتلافي تدهور الوضع قدر الإمكان والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن الإشكال المطروح هو من يقدر عفونة الوضع، وماهو الحد الذي نقف عنده للفصل بين الحالين.. فالأمور كلها نسبية. ولا يمكن الحكم عليها إلا بعد زمن معين يكون فيه الحكم قد صدر فعلا، فإذا صلحت الأمور بسلاسة، وجاء الإصلاح من الداخل وأنقذ الوضع، خُطِّأ المعارضون الداعون إلى التغيير الجدري وقيل لنا إن الأمر لم يكن بالسيء جدا! وإن جاء الطوفان الذي يجرف الأخضر واليابس، صار كل من شغل منصبا ولو بسيطا مجرما لأنه انجر وراء المال والسلطة والنفوذ ولو لم يثبت عليه شيء، وقيل لنا إن الوضع كان أعفن من العفن، مهما كان الوضع الجديد. وذلك لأن التاريخ دائما يكتبه المنتصرون. فالقرار ليس هينا وبسيطا، والتحليلات النظرية بعيدا عن الموقف الفعلي ليست دائما ذات معنى، لأنها دائما في منزلة بين المنزلتين، صالحة لكل النتائج، ويحاجج بها قائلها في كل المواقف.. فالواقع والفعل شيء آخر، لن يحكم عليه الحكم النهائي إلا الزمن، بعد زمان قد يطول جدا!

عن المشاركة والتضامن

كثيرا ما نسمع عن الانفراد.. والخروج عن الجماعة.. ومخالفة رأي الأغلبية.. وكل تلك الصفات التي تصنف صاحبها مع الخونة والمرتدين! ولكن، هل تحلت هذه الجماعة أو الأغلبية بروح الجماعة وأساسيات العمل الجماعي؟ كثيرا ما تطالبنا هذه الأغلبية -إن صدقت- بالمشاركة في تحمل المسؤولية، وهو ما يعني المشاركة في تحمل النتائج والأعباء لا غير، إذ غالبا ما تكون المشاركة الوحيدة في الموضوع!

المشاركة الحقيقية تقتضي المشاركة في كل شيء، فإذا أردت مني تحمل مسؤولية قرار ما أو حل ما، عليك أن تشركني في اتخاذ هذا القرار وصياغة هذا الحل! عليك أن تطرح الأمور بشفافية من البداية، فنحدد الخلل معا، ونحصر المشاكل معا، ونفكر في الحل معا، ونصيغ الحلول والقرارات معا. عندها لا معنى للحديث عن المشاركة، فالمشاركة عندئذ تكون أمرا واقعا لا يحتاج إلى تأكيد.

أما أن تعتبرني قاصرا عن التفكير والتحليل، فتقصيني من دائرة القرار والنقاش، فتفرض بالتالي نظرتك القاصرة للموضوع، فالأولى بك أن تواصل اعتبارك بإقصائي من التنفيد وتكمل وحدك ما دمت قادرا ومتمكنا.

فأنت في حقيقة الأمر تبحث عن تابع تشاركه الفشل الذي أنت مقبل عليه، وأنت وحدك المسؤول عنه.. ولكن عذرا، فهذا الدور دون مستوى طموحاتي.