الطريق الثالث

 - أنت معي أو ضدّي ؟
 - أنا لست معك، لكنّي لست معه، فأنا لست ضدّك !
 - أنت لست معي.. هذا ما أسمع.. إذن أنت ضدّي !!!
هذا هو منطق التّخلف والجهل والرّداءة في أبهى صورها.. فالعالم القديم الجاهل المتخلّف كان يُصَوِّرُ الكون كلّه كمَورِدٍ حصري لا يملكه إلاّ واحد ولا تَشَارُكَ فيه.. لا في المواد ولا الآراء ولا الأفكار.. فالمورد واحد والحاكم واحد والرّأي واحد والفكر واحد..
قد أختلف معك في طرحك وفي كلامك.. لكنّ هذا لا يعني أنّي متّفق مع عدوّك أو أنّي أعمل ضدّك ؟! فالعقل البشري ليس مربعا وحيد اللّون والذّوق والرّائحة..
قد أوافقك في المشكلة والضّرر الواقع لكنّي أختلف معك في المعالجة وطريقة الحلّ.. وحتّى إن نَجَحتَ بطريقتك في حلّ المشكلة فهذا لن يغيّر من قناعتي.. وكلّ هذا لا يعني أنّي أعمل ضدّك أوأني سأُعيقك في طريقك..
قد أوافقك في جزء من الصّورة وأختلف معك في الجزء الباقي.. ولا يعني هذا أنّي خائن أو عميل أو مأجور..
لكلّ واحد الحقّ في اختيار الطّريق الثاّلث.. لست معك ولست ضدّك.. "أنا معي" ومع قناعاتي.. فلنتعاون في ما اتفقنا عليه..
فما جرّ علينا الويلات قديما وسيجرّها إلينا اليوم إلى شعارات الإقصاء والشّمولية التي مبدؤها "لا صوت يعلوا فوق صوت.." فلا صوت يعلوا فوق صوت المعركة ولا صوت يعلوا فوق صوت الشّعب ولا صوت يعلوا فوق صوت الصّندوق ولا صوت يعلوا فوق صوت الشّارع.. وفي نهاية المطاف، ولأنّ الأصل باطل، تعلوا كل الأصوات الشاذة الأفّاقة إلا أصوات المعركة والشّعب والصّندوق والشّارع.. فالمعركة خسرناها.. والشّعب استحمرناه.. والصّندوق اغتصبناه.. والشّارع سددناه وأغلقناه وهجّرنا سكّانه..
وأوّل الخاسرين وأكبرهم.. أصحاب الطّريق الثالث..

الفاسد والمفسد

عجبت لوقاحة بعض النّاس ممّن ينادون بالإصلاح والتّغيير.. فالإنسان ليس كاملا ولسنا بالأنبياء ولا الملائكة.. فكلّنا فاسدون على درجات.. لأنّ ابن آدم خطّاء.. فليس عجبا أن ترى من أخطأ يوما أو أياما، فقدّم رشوة أو كذب أو سرق أو دلّس، ليس عجيبا أن تراه يطالب بالإصلاح والتّغيير لعلّه يلقى في النّظام الجديد محيطا نقيّا نظيفا يمنع عنه أسباب الإنحراف والخطأ..
أمّا أن ترى المُفسد يطالب بالإصلاح والتّغيير، فهذا هو العجب العجاب.. فكيف لمن وَطَّنَ للفساد وسَهَّل سُبُلَه وحَضَّ النّاس عليه ودَلَّهُم عليه وأثَابهم عليه أن يكون مصلحا ؟ ولست هنا أتكلّم عن السّاسة، بل عن صغار المُفسدين قدرا وأعظمهم جُرما.. الّذين لا يعرفهم الكثير.. عن الأطبّاء الذين قَنَّنُوا الرّشوة في مصالحهم بتغاضيهم أحيانا وأوامهم أحيانا أخرى، عن المعلّمين الّذين منعوا المعرفة عن تلاميذهم ما لم يسجّلوا أسماءهم ضمن قوائم الدّروس الخصوصية، عن أساتذة الجامعة الّذين شرعنوا التَّوريث في مسابقات الدّكتوراه ومسابقات التّوظيف، وعن الإطارات الذين قنّنوا الفساد في دوائرهم ثم يقولون اليوم.. نريد الإصلاح..

الصالح والمصلح

علّمتنا الحياة أن النّاس يحبّون الصّالح ويبغضون المُصلح، لأنّ الصّالح في نفسه يعود صلاحُه على من حوله، أمّا المُصلح فإنّه يكشف عورات من حوله بدعوته للإصلاح، فيكره النّاس فيه تذكيرُهم إيّاهُ بعُيُوبهم..
وإنّ ممّا يحزّ في النّفس أنّ النّاس أصبحت تميل للصّلاح لا إلى الإصلاح، فتراهم منهمكين في عباداتهم القاصرة (وهي مشروعة ومطلوبة ومأجورة إن شاء الله) مُتَحِرِّجِين من الأعمال المتعدّية من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وتحريض على الخير.. لأنّ فيه مجلبة للنّقد والتّعيير ومباعدة للأصحاب والأحباب..
الصّلاح أساس لصلاح أكبر، فالمجتمع الصّالح لا يصلح إلا بصلاح أفراده.. لكنّ هذا الصّلاح له أعداء وتَحُفُّهُ مخاطر نفسيّة وبشريّة وإجتماعيّة.. وتَخَطِّيها واحتواءها لا يكون إلاّ بالإصلاح وتعدّي الصّلاح إلى الآخر.. فالماء الطّاهر لن يبقى على طُهره في الكنيف المتّسخ وإن سلم لونه وطعمه فلن يسلم ريحه..