البحر ياخذ فيهم.. وهما يقولوا يا ماحلا بروده

هذا مثل من أعماق المجتمع الجزائري: البحر يلتهم الناس ليغرقهم، وهم يقولون ما أحلى بروده! ذكرني به متدخل على القناة الإذاعية الوطنية في برنامج "واش نحكي وواش نخلي" والذي كان مخصصا للحديث عن الشكارة (أي المال) وما تفعله في الناس.. وعلى العموم هذه المقدمة ليس لها علاقة بموضوعنا!
إنما وجدت المثل معبرا عنا بكل جزئياتنا وتفاصيلنا.. إذ نتلذذ بواقعنا وحالنا ونشكر أنفسنا ويجامل بعضنا بعضا على أمانتنا وإخلاصنا وتقوانا وصدقنا وكل المحامد ما ظهر منها وما بطن -المحامد التي نحلف أنها لم تعد موجودة في أيامنا هذه! ونعتقدها في أنفسنا جمعا بين النقيضين!- ونعتقد أننا غير مكلفون بغير ما (لا) نفعله، وأن خطابات الشرع من محاسبة النفس وتلمس زلاتها وعدم اتباع الظن في إخواننا والنظر في أعمالنا وذواتنا قبل إعمال النقد والمحاسبة في غيرنا، وتلمس الأعذار لإخواننا كما نتلمس الأعذار الواهية لأنفسنا.. كل هذه الخطابات قد أعفينا منها فلا تكليف لنا بها.. وفوق كل هذا تعتقد الرفعة والعصمة والكمال والولاية أيضا؟؟ ولست أدري إن كان جهلا أم تجاهلا أم استحمارا للذات وللغير؟ إذ كيف نكون على هذا المقام العالي ولم يتأثر بنا المحيط إلا نقصا وانتقاصا، وكيف يتسلل الماء إلى عقر دارنا، وكيف نعتقد أننا قد أدينا واجبنا ونحن لا نخاطب إلا أنفسنا ولا نخاصم إلا أنفسنا؟ فهل سنستفيق حقا يوما من هذه الغفلة الميت اهلها؟ إنا لله وإنا إليه راجعون..

من دروس الفضائيات.. النعومة والخشونة

شد انتباهي فاصل إعلاني على قناة عربية فضائية عريقة. القناة معروفة بتنوعها الظاهر، وتركيزها على برامج الموضة والمسلسلات المدبلجة بكل جنسياتها. الفاصل الإعلاني يحوي إشهارين: يتعلق الأول بنعومة الأطفال التي يمنحها مستحضر تجميل للشابات الغانيات الفاتنات –أو هكذا فهمت من صور العارضات في الإعلان!– والثاني عن نعومة شوكولاتة راقية.. عفوا! لذة شوكولاتة راقية.. لحد الآن الأمر طبيعي. ولكن المفارقة تكمن في أن هذا الفاصل لم يتخلل مسلسلا تركيا أو برنامج نسائيا ناعما، وإنما ورد في منتصف حلقة حوارية ساخنة جدا عن الوضع في سوريا مع كل ما فيه من قتلى وأخبار التعذيب والقمع والمزايدة والمؤامرة وسب وشتم بين المتحاورين و.. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ليس عن الوضع في سوريا طبعا، وإنما عن نوع الإشهار في حلقة حوارية كهذه، هو هل تطور مجتمعنا العربي بهذه السرعة المذهلة بحيث أصبحت الشريحة المستهدفة من هذه البرامج السياسية هي ربات البشرات الناعمة والأصابع التي لا تمسك إلا بالشوكولاتة؟؟ أم هل تخنث المتابع العربي للسياسة –من كثرة الأخبار التي تمس بالشرف العربي والشهامة الإنسانية عموما– فصار من الباحثين عن البشرة الناعمة والشوكولاتة الطرية؟؟ هي افتراضات على سفهها لا ترد على هذا النوع من المزاوجة بين الحصة والإعلان. على أننا قد نجد تفسيرا منطقيا آخر لهذا الوضع إذا علمنا بأن تقديم البرنامج لم يوكل إلى مذيع من الطراز "الخشن" الذي يوحي لك بالخبر السيء قبل أن تسمعه.. وإنما كان من الجنس اللطيف الذي تستهويه أخبار النعومة ويوحي لك بالرقي واللباقة والتفاؤل أيضا! ويجعل المشاهد يميل دون أن يشعر إلى تلمس النعومة والطراوة أيضا بعيدا عن أخبار الشغب والعنف والقتل التي غطى عليها أصلا جمال المذيعة ومظهرها! فهنيئا لنا بقنواتنا وبرامجنا السياسية.